الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

خلاف العلماء فى حكم الإصرار على الصغيرة هل تصير كبيرة بالإصرار

287592

تاريخ النشر : 20-05-2018

المشاهدات : 51019

السؤال

قرأت على موقعكم كثيرا أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة ، فتخرج بذلك بكونها من اللمم المغفور ، ولكن سؤالي أني قد سمعت أحد الدعاة يقول : إن الاصرار على الصغيرة لا يجعلها كبيرة ، وإنما تصبح كبيرة فقط فى حالة الاستهتار والاستهانة بالصغيرة ، أما مجرد الإصرار دون استهتار أو استهانة لا يجعها كبيرة ، والقول الأول : وهو أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة قول جمهور العلماء ـ رحمهم الله ـ ، ورجحه ابن القيم ، وابن تيمية ، واستدل أصحاب القول الأول بحديث ( لا صغيرة مع الإصرار ) ، وهذا الحديث روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق عن عدد من الصحابة ، منهم ابن عباس ، وأنس ، وعائشة ، وغيرهم ، ولكن جميع هذه الطرق ضعيفة ، ضعفها ابن رجب ـ رحمه الله ـ في "شرح الأربعين" ، والألباني ـ رحمه الله ـ في "السلسلة الضعيفة" ، وروي هذا الحديث موقوفاً عن ابن عباس ، وموقوفاً عن أنس بسند صحيح ، والقول الثانى : هو قول بعض أهل العلم ، ورجحه الشوكاني أن الإصرار على الصغيرة صغيرة ، ولا يجعلها كبيرة ، واستدل أصحاب القول الثاني بأن هذا لا دليل عليه . فسؤالى هنا على هذا الكلام صحيح أن المسألة خلافية ، فأرجو بيان خلاف العلماء ، وأدلة الفريقين ، وبيان العلماء الذين نصروا القول الثانى ، حيث لم أعثر على كلام الشوكانى ، وابن رجب فى نصرة القول الثانى ، أو إحالتى إلى مرجع يعرض أدلة الفريقين بأسلوب علمى يسهل فهمه ، حتى لا ننكر على المخالفين .

الجواب

الحمد لله.

أولا:

جمهور الفقهاء على أن اللمم هو صغائر الذنوب. كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم :(22422) .

ثانيا:

الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد خاص في الآخرة، بلعن أو غضب.

سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ ؟

فأجاب : أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ : أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ : حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ .

وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا .

وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ ، فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ .

وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ ؛ أَيْ : " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ .

وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ . وَقِيلَ فِيهِ : مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ " .

انتهى باختصار من "مجموع الفتاوى" (11/650- 652).

ثالثا:

اختلف أهل العلم في الإصرار على الصغيرة هل يجعلها كبيرة أم لا؟ على قولين:

القول الأول: أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وإليه ذهب الجمهور، كما حكاه النووي وغيره، واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم.

القول الثاني: أن الإصرار على الصغيرة لا يجعلها كبيرة، وإليه ذهب بعض أهل العلم، كالشوكاني رحمه الله.

وحجة القول الأول ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ" رواه البيهقي ، بنحوه ، في "شعب الإيمان" (6882) ، وغيره .

وقد روي مرفوعا، ولا يصح. وينظر: "السلسلة الضعيفة" (4810).

وقال العراقي في تخريج الإحياء: "وَرَوَى أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي مُسْند الفردوس عَن أنس قَوْله: لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَإِسْنَاده جيد" انتهى من "المغني عن حمل الأسفار" (ص1353).

وينظر: "تبييض الصحيفة" للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، رحمه الله، الحديث التاسع والأربعون.

ومن حجتهم: أن الإصرار على الصغيرة يدل على الاستهانة وقلة المبالاة، وهذا ينافي تعظيم الله تعالى.

قال النووي رحمه لله "في شرح مسلم" (2/ 86): " قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه: وَالإِصْرَار عَلَى الصَّغِيرَة يَجْعَلهَا كَبِيرَة.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: لا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَارٍ، وَلا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار.

مَعْنَاهُ: أَنَّ الْكَبِيرَة تُمْحَى بِالاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّغِيرَة تَصِير كَبِيرَة بِالإِصْرَارِ " انتهى.

وقال ابن تيمية رحمه الله: "وَيُقَال : اللمم أَن يلمم بالذنب الصَّغِير مرّة ، من غير إِصْرَار ؛ لِأَن من أصر على الصَّغِيرَة صَارَت كَبِيرَة ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيّ : (لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار ، وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار) .

فقد جَاءَ الْكتاب وَالسّنة بتكفير الصَّغَائِر لمن اجْتنب الْكَبَائِر ، وَهَذَا لَا ريب فِيهِ" .

انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" ، ص576

وقال ابن القيم رحمه الله : "الإصرار على الصغيرة : قد يساوي إثمه إثم الكبيرة، أو يُربِي عليها" انتهى من "إغاثة اللهفان" (2/151).

وقال ابن رجب رحمه الله: "فالمحسنُ: هو من لا يأتِي بكبيرة ، إلا نادرًا ، ثم يتوبُ منها .

ومن إذا أتى بصغيرة : كانتْ مغمورةً في حسناتِهِ المكفرةِ لها، ولا بُد أن لا يكونَ مصِرًّا عليها، كما قال تعالى: (وَلَمْ يصِرّوا عَلَى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلَمون) .

ورويَ عن ابن عباسِ أنَّه قالَ: لا صغيرةَ مع الإصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار .

ورويَ مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة.

وإذا صارتِ الصغائرُ كبائرَ ، بالمداومةِ عليها، فلا بُدَّ للمحسنينَ من اجتنابِ المداومةِ على الصغائر، حتى يكونوا مجتنبينَ لكبائرِ الإثم والفواحشِ" .

انتهى من "جامع العلوم والحكم" (1/ 449).

وحجة القول الثاني: أنه لا دليل على أن الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار.

قال الشوكاني رحمه الله: "وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية ، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار.

وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ ، وجعله حديثا .

ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة" انتهى من "إرشاد الفحول" (1/ 146).

والحاصل أن هذه مسألة خلافية بين أهل العلم.

وبكل حال ؛ فالعاقل يحذر من الصغائر واجتماعها، فإنها إذا اجتمعت على المرأ أهلكته، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْه ) .

رواه أحمد (22302) من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وقال الحافظ : إسناده حسن اهـ.

وروى أحمد (3803) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا : كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا ، فَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا ) . حسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2687).

وروى ابن ماجه (4243) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَائِشَةُ ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ طَالِبًا ) . صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" .

قال الغزالي رحمه الله : " تواتر الصغائر عظيم التأثير في سواد القلب ، وهو كتواتر قطرات

الماء على الحجر ، فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة ، مع لين الماء ، وصلابة الحجر" انتهى .

ولقد أحسن من قال :

لا تحقرنَّ صغيرةً  *  إنَّ الجبالَ من الحصى

وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب

موضوعات ذات صلة