الحمد لله.
أولًا :
قراءة القرآن مع مراعاة أحكام التجويد : أمر حسن ، إلا أن بعض الناس اليوم صرفوا هممهم إلى التكلف في إقامة حروف القرآن ، والتعسف في النطق بها ، والمبالغة في ذلك ، وحملهم هذا التكلف على انتقاد غيرهم من قُرَّاء القرآن وحفظته ؛ لمجرد أنهم لم يُشبعوا مدًّا من المدود، أو غنَّة من الغنن، أو لم يأتوا بصفة من صفات الحروف على وجه الكمال ، أو نحو ذلك من أحكام التجويد التي لا يجب الإتيان بها ، ولا يؤثر تركها على صحة القراءة وبيانها .
وهذا من التنطع والتكلف المذموم شرعًا ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى االله عليه وسلم : هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا. رواه مسلم (2670).
والمُتَنَطِّعُونَ : المُتَعَمِّقُون ، الغَالُونَ ، المُجَاوِزُونَ الحُدَودَ في أقْوَالِهِم وأفْعَالِهِم .
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ رواه أبو داود (4843) وحسنه الألباني.
ومعنى : ( الغالي فيه ) أي : المجاوِز فيه عن الحد لفظاً ومعنى ، أو الخائنِ فيه بتحريفه، أو في معناه بتأويله بباطل . انتهى من "شرح المصابيح" لابن الملك (5/ 301).
وقالَ ابنُ الجَزَرِيِّ رحمه الله في مُقَدّمتِهِ :
مُكَمِّلاً مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلاَ تَعَسُّفِ
وقال السَّخَاوي رحمه الله في مَطْلَعِ قَصِيدَتِهِ المُسَمَّاةِ : ( عُمْدَةُ المُفِيدِ وَعُدّةُ الْمُجِيد في مَعْرِفَةِ التَّجْويدِ):
يَا مَنْ يَــــــرُومُ تِلاَوَةَ الْقُـــرْآنِ وَيَرُودُ شَــــــأْوَ أَئِمَّةِ الإِتْقَــانِ
لاَ تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مداًّ مُفْرِطاً أَوْ مَدَّ مَــا لا مَـــــدَّ فِيهِ لِـــوَانِ
أَوْ أَنْ تُشَــدِّدَ بَعْـــدَ مَدٍّ هَــمْزَةً أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ
أَوْ أَنْ تَفُــوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَــــوِّعاً فَيَفِــــرّ سَــــامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ
لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلاَ تَكُ طَاغِياً فِيه وَلاَ تَكُ مُخْسِرَ الْمِـــيزَانِ
وهذا التكلف في إقامة حروف القرآن ، يشغل عمّا أُنزل القرآن من أجله ، وهو : تدبره ، والتفكر فيه ، ثم العمل بمقتضاه ، وإقامة حدوده .
وقد حذر العلماء من ذلك قديمًا وحديثًا ... قال أبو شامة المقدسي : " لم يبق لمعظم من يطلب القرآن العزيز هِمَّة إلَّا في قوة حفظه ، وسرعة سرده ، وتحرير النطق بألفاظه ، والبحث عن مخارج حروفه ، والرغبة في حسن الصوت به ، وكل ذلك وإن كان حسنًا ولكن فوقه ما هو أهم وأتم وأولى وأحرى ، وهو فهم معانيه ، والتفكر فيه ، والعمل بمقتضاه ، والوقوف عند حدوده ، وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته " انتهى من "المرشد الوجيز" (ص421).
بل إن من هؤلاء المتنطعين من يُبتلون بالوسوسة في القراءة ، فتراهم يكررون الحروف والكلمات ؛ لإخراج كل حرف من مخرجه بأحسن صورة – زعموا – ، أو لظنهم بطلان ما نطقوا به أولاً ؛ لشدة تكلفهم ومبالغتهم !
قَالَ ابنُ الجَوزِي- رحمه الله : " وَقَدْ لَبَّسَ إبْليسُ عَلَى بَعْضِ المُصَلِّينَ فِي مَخَارِجِ الحُرُوفِ ، فَتَراه يَقُولُ : الحَمْدُ الحَمْدُ فَيَخْرُجُ بِإعَادَةِ الكَلِمَةِ عَنْ قَانُونِ أدَبِ الصَّلاةِ ، وَتَارَةً يُلَبّسُ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ التَّشْدِيدِ ، وتَارَةً فِي إخْرَاجِ ضَادِ المَغْضُوبِ ، وَلَقَد رَأيتُ مَن يَقُولُ : المَغْضُوب فَيخْرُجُ بُصَاقُهُ مَعَ إخْرَاجِ الضَّادِ ؛ لِقُوَّةِ تَشْدِيدِهِ ، وإنَّمَا المُرَادُ : تَحْقِيقُ الحَرْفِ فَحَسْب ، وإبْلِيسُ يُخْرِجُ هَؤلاءِ بِالزِّيَادَةِ عَن حَدِّ التَّحْقِيقِ، ويشْغلُهُم بِالمُبَالَغَةِ في الحُرُوفِ عَنْ فَهْمِ التِّلاوَةِ ، وَكُلّ هَذِهِ الوَسَاوسِ مِن إبْلِيسَ " انتهى من "تلبيس إبليس" (ص126).
والمطلوب من قارئ القرآن هو أن يبيَّن حروفه ، ويقرأ القرآن بترسل وتمهل ، ولا يعجل في قراءته ؛ لقول الله تعالى: ( ورتّل القُرآنَ تَرتِيْلاً ) المزمل/4 .
والترتيل هو : تبيين الحروف بإخراجها من مخارجها ، والترسل في القراءة والتمهل فيها .
قال الزجاج رحمه الله: " رتّل القرآن ترتيلًا ، بينه تبيينًا ، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن ، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع " انتهى من "تفسير الرازي" (16/107).
وقال ابن الجزري رحمه الله : " الترتيل مصدر من رتل فلان كلامه ؛ إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث ... قال صاحب العين : ( رتلت الكلام : تمهلت فيه ) " انتهى من "التمهيد" لابن الجزري (1/59).
أما أحكام التجويد التي يذكرها أهل التجويد في كتبهم ؛ فليس في النصوص الشرعية ما يدل على وجوب الأخذ بجميعها ، ولكن منها ما يلزم الأخذ به ؛ وهو ما لا تستقيم القراءة ولا تصح إلا بالإتيان به ، ومنها ما لا يلزم الأخذ به ، وإنما يستحب .
وما كان الأخذ به مستحبًا من هذه الأحكام ؛ فلا يجوز إلزام الناس به ، ولا الإنكار عليهم إذا لم يأتوا به .
فأحكام التجويد التي يترتب على تركها فساد المبنى وتغيير المعنى ؛ يلزم القارئ الإتيان بها ، وأما التي لا يترتب على تركها فساد المبنى وتغيير المعنى ؛ فلا يلزم الإتيان بها ، وإنما يستحب.
ثانيا :
من أكرمه الله تعالى وعلمه تجويد القرآن ، عليه أن يتأدب بآداب القرآن ، فلا يجوز له أن يسخر من أحد أو يستهزئ به لكونه أخطأ في بعض أحكام التجويد ، أو لم يأت بها على وجه الكمال ، فإن السخرية من المؤمنين محرمة بنص القرآن الكريم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ الحجرات/11.
وكون المسلم يخطئ في بعض أحكام التجويد ليس مسوغًا لأحد لأن يسخر منه أو يغتابه أو يتعالى عليه .
كما لا يجوز له أن يتعالى على الناس بهذا العلم الذي تعلمه ، فإن هذا قد يكون دليلا على أنه طلب العلم لغير الله ، أو غلبه الشيطان فأفسد عليه نيته ، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من تعلم العلم ليجاري به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار رواه الترمذي (2654) وحسنه الألباني .
ومعنى : (ليجاري به العلماء) أي : يجري معهم في المناظرة ليظهر علمه في الناس رياءً وسمعة .
(أو ليماري به السفهاء) أي : يجادل به الجهال .
(ويصرف به وجوه الناس إليه) : أي يطلب العلم ليحصل الجاه وإقبال الناس عليه .
ينظر : "تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي" .
فالواجب على المسلم أن يكون من طلبه العلم لله ، وليس من أجل التعالى على الناس ، ولا تحصيل الشهرة والجاه والمال .
وعليه أن يكون موقرا لإخوانه المسلمين ، لاسيما أهل القرآن منهم ، فإن لهم حرمة أكثر من غيرهم ، لما يحملونه في صدورهم من كلام الله تعالى .
وقد ذكر الإمام الحافظ المقرئ، شمس الدين الذهبي رحمه الله، هاتين الآفتين في حق المشتغلين بالقراءة وتجويد القرآن، في زمانه، وهما : المبالغة في هذا الشأن، حتى يخرج صاحبه عن حد الاعتدال والتوسط، ورؤية النفس، والإزراء على الآخرين. قال رحمه الله:
" فالقراء المجودة: فيهم تنطع، وتحرير زائد، يؤدي إلى أن المجود القارىء: يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف، والتنطع في تجويدها، بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة لله، ويخليه قوي النفس، مزدريا بحفاظ كتاب الله تعالى. فينظر إليهم بعين المقت، وأن المسلمين يلحنون ...
فليت شعري؛ أنت ماذا عرفت؟! وما علمك؟!
وأما عملك: فغير صالح!!
وأما تلاوتك: فثقيلة، عرية عن الخشية والحزن والخوف!!
فالله يوفقك، ويبصرك رشدك، ويوقظك من رقدة الجهل والرياء.
وضدهم: قراء النغم والتمطيط.
وهؤلاء، في الجملة: من قرأ منهم بقلب وخوف، قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت من يقرأ صحيحا، ويطرب ويبكي.
نعم؛ ورأيت من إذا قرأ قسى القلوب، وأبرم النفوس، وبدل كلام الله تعالى.
وأسوَأُهم حالا: الجنائزية.
والقراء بالروايات، وبالجمع: فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج عن القصد، وشعارهم: في تكثير وجوه حمزة ، وتغليظ تلك اللامات، وترقيق الراآت.
اقرأ يا رجل، وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة، والمدود ، ووقوف حمزة ؛ فإلى كم هذا؟ وآخر منهم: إن حضر في ختمة، أو تلا في محراب؛ جعل دَيْدَنه إحضار غرائب الوجوه، والسكت، والتهوَّع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف، ونادى على نفسه: أنا أبو فلانفاعرفوني؛ فإني عارف بالسبع!! إيش يُعمل بك؟ لا صبحك الله بخير؛ إنك حجر منجنيق، ورصاص على الأفئدة." انتهى، من "بيان زغل العلم" .
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه، أن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يرزقنا بركته، وأن يرزقنا القصد والاستقامة في الأمر كله.
والله أعلم.
تعليق