الحمد لله.
أولا:
التداوي مستحب غير واجب، في قول جمهور أهل العلم.
ومنهم من أوجبه، إذا تُيقن نفعه ، وكان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ليس بواجب عند جماهير الأئمة ، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد " نقله السفاريني في "غذاء الألباب" (1/ 459).
ومن الأدلة على عدم وجوب التداوي: ما روى البخاري (5652) ، ومسلم (2576) عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ بَلَى. قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ؛ فَادْعُ اللَّهَ لِي!! قَالَ : إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ ؟ فَقَالَتْ : أَصْبِرُ . فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ . فَدَعَا لَهَا ".
فهذا الحديث يدل على جواز ترك التداوي في مثل هذه الحال، لمن قويت عزيمته وقدر على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَفِي الْحَدِيث فَضْل مَنْ يُصْرَع , وَأَنَّ الصَّبْر عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِث الْجَنَّة , وَأَنَّ الْأَخْذ بِالشِّدَّةِ أَفْضَل مِنْ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ ، لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسه الطَّاقَة ، وَلَمْ يَضْعُف عَنْ اِلْتِزَام الشِّدَّة .
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز تَرْك التَّدَاوِي .
وَفِيهِ أَنَّ عِلَاج الْأَمْرَاض كُلّهَا بِالدُّعَاءِ وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه ، أَنْجَع وَأَنْفَع مِنْ الْعِلَاج بِالْعَقَاقِيرِ , وَأَنَّ تَأْثِير ذَلِكَ وَانْفِعَال الْبَدَن عَنْهُ أَعْظَم مِنْ تَأْثِير الْأَدْوِيَة الْبَدَنِيَّة .
وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْجَع بِأَمْرَيْنِ: أَحَدهمَا مِنْ جِهَة الْعَلِيل ، وَهُوَ صِدْق الْقَصْد، وَالْآخَر مِنْ جِهَة الْمُدَاوِي، وَهُوَ قُوَّة تَوَجُّهه وَقُوَّة قَلْبه بِالتَّقْوَى وَالتَّوَكُّل ، وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى من "فتح الباري" (10/ 115).
ولا شك أن التداوي في الحالة المسئول عنها ليس واجبا؛ لأنه لا يُتقين نفعه، بل يحتمل أن يترتب عليه مضرة.
ثانيا:
يجوز التداوي في هذه الحالة ، إذا كانت المصلحة المرجوة تربو على المفسدة المتوقعة.
قال العز ابن عبد السلام رحمه الله: " إذا اجتمعت مصالح ومفاسد: فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما؛ لقوله سبحانه وتعالى: فاتقوا الله ما استطعتم التغابن/16.
وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة ، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [البقرة: 219] .
حرمهما ، لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
أما منفعة الخمر: فبالتجارة ونحوها، وأما منفعة الميسر فبما يأخذه القامر من المقمور.
وأما مفسدة الخمر: فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وأما مفسدة القمار: فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة، لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها.
وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة، حصّلنا المصلحة مع التزام المفسدة.
وإن استوت المصالح والمفاسد، فقد يتخير بينهما، وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد" انتهى من "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 98).
فإذا قال الأطباء إن احتمال حصول الشلل ، أو فقد حاسة : احتمال ضعيف، فلا شك أن مصلحة بقاء الإنسان، وسلامة بقية الأعضاء، وتخفيف الآلام عنه، تُقدم حينئذ.
ثم يبقى النظر: هل الأفضل التداوي أم تركه؟ وقد نُسب الاستحباب إلى الجمهور.
قال السفاريني رحمه الله في "غذاء الألباب" (1/457) : " وقيل فعل التداوي أفضل من تركه , وبه قال بعض الشافعية . وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أنه مذهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف ، وقطع به ابن الجوزي من أئمتنا في المنهاج والقاضي وابن عقيل وغيرهم ، واختاره الوزير بن هبيرة في الإفصاح .
قال : ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب ، ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه ، فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه " انتهى .
ثم يأتي النظر الخاص لكل إنسان بحسب حاله، فإن الإقدام على الله ليس بالأمر الهين، وكذلك الصبر على آلام المرض دون علاج، فيختلف ذلك باختلاف العمر، والقدرة على التحمل، وطبيعة المضاعفات المتوقع ترتبها على ترك التداوي.
وينبغي معرفة ذلك من الطبيب، فربما اختار الإنسان ترك التداوي، ظنا أن ذلك أسهل له، وكان الواقع أن المرض إذا تفاقم وانتشر في جسده، لم يمكن علاجه ، ولم يمكن تحمل آلامه.
والذي يظهر: القول باستحباب التداوي مطلقا ، لما ورد من الأمر به والترغيب فيه.
ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا ، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين.
والله أعلم.
تعليق