الحمد لله.
أولا:
ما ينقل عن الصحابة قد يكون له حكم المرفوع ، إذا كان مما لا مجال للرأي فيه ، كالأمور الغيبية ، ولم يكن الصحابي ممن يأخذ عن أهل الكتاب.
وقد يكون اجتهادا من الصحابي في تفسير النص .
وينظر في منزلة تفسير الصحابة، جواب السؤال رقم : (270289) .
ثانيا:
المعتمد في تفسير ( الهم ) من يوسف عليه السلام أمران:
الأول : أنه ميل وخاطر، لم يثبت عليه ولم يصر، بل تركه لله تعالى ، فيكتب له حسنة.
الثاني : أنه لم يهم أصلا، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير، وأن التقدير: أنه لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها.
وأما ما جاء عن ابن عباس وغيره، مما يفيد مجاوزة هذا الهم إلى الشروع في الفعل، فهو محمول على أنهم أخذوه من أهل الكتاب، وهو مناف لقوله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف/24؛ فإن حلّ السراويل ونحوه من السوء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما يوسف الصديق : فلم يذكر الله عنه ذنبا ، فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين؛ فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء.
وأما قوله: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه: فالهم اسم جنس تحته " نوعان "، كما قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها لله كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة، وإن تركها من غير أن يتركها لله، لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة.
ويوسف صلى الله عليه وسلم: هم هما تركه لله ، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب، وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله .
فيوسف عليه السلام: لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها؛ وقال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
وأما ما ينقل: من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده، وأمثال ذلك؛ فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء، وقدحا فيهم. وكل من نقله من المسلمين: فعنهم نقله؛ لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10/ 296).
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله : " فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي، في الآيات المتقدمة، ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى: ( وهم بها )؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بهم يوسف بها: خاطر قلبي، صرف عنه وازع التقوى.
وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي، والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه؛ لأنه أمر جِبِلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك ، يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة؛ لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع، خوفا من الله، وامتثالا لأمره، كما قال تعالى: ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) [النازعات/40-41] ...
والجواب الثاني وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره، هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ; لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) [10 / 84] ، أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب ; لأن جواب الشروط وجواب لولا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه، كالآية المذكورة، وكقوله: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [27 / 64] ، أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول: فمعنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها، فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.
ونظير ذلك قوله تعالى: (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) [28 10] ، فما قبل لولا دليل الجواب، أي: لولا أن ربطنا على قلبها، لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب لولا، وتقديم الجواب في سائر الشروط، وعلى هذا القول يكون جواب لولا في قوله: (لولا أن رأى برهان ربه)، هو ما قبله من قوله: (وهم بها).
وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.
وقال الشيخ أبو حيان في البحر المحيط ما نصه: والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا نقول: إن جواب لولا متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد، بل نقول: إن جواب لولا محذوف، لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت. فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان وجود الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم...
ولا التفات لقول ابن عطية: إن قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله: ( ولقد همت به )، وإن جواب لولا في قوله: ( وهم بها ) ، وإن المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلم يهم يوسف عليه السلام.
قال: وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف اهـ.
أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال الله تعالى: (إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) [28 / 10] 30 فقوله: (إن كادت لتبدي به) إما أن يتخرج على أن الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
وأما أقوال السلف: فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك؛ لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة.
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ; لأنهم قدروا جواب لولا محذوفا ولا يدل عليه دليل ; لأنهم لم يقدروا : لهم بها . ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ; لأن ما قبل الشرط دليل عليه اهـ. محل الغرض من كلام أبي حيان بلفظه.
وقد قدمنا أن هذا القول هو أجرى الأقوال على لغة العرب، وإن زعم بعض العلماء خلاف ذلك.
فبهذين الجوابين: تعلم أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه هم أصلا، بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي (لولا) على انتفاء رؤية البرهان، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه، وبانتفائه ينتفي المعلق، الذي هو همه بها، كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان.
وإما أن يكون همه خاطرا قلبيا، صرف عنه وازع التقوى، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى كما أوضحناه.
فبهذا يتضح لك أن قوله: (وهم بها): لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي".
ثم أورد رحمه الله ما جاء عن عباس وغيره، ثم قال:
"قال مقيده عفا الله عنه: هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين:
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك، فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين: أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات ؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية، يريد أن يزني بها، اعتمادا على مثل هذه الروايات، مع أن في الروايات المذكورة ما تلوح عليه لوائح الكذب" انتهى من "أضواء البيان" (2/ 207-215).
والحاصل:
أن المروي عن الصحابي ليس على درجة واحدة، وأنه إذا خالف النص، واحتمل أن يكون مأخوذا من أهل الكتاب، كما هنا، فهو مردود.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (229770) .
والله أعلم.
تعليق