الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

هل قانون السببية من سنن الله وهل المعجزة خرق للسنن أو لهذا القانون؟

311544

تاريخ النشر : 03-10-2019

المشاهدات : 16067

السؤال

هل يصح القول بأن قانون السببية من سنن الله الكونية ، فإن صح ذلك ، ونظرنا فإذا المعجزات التي أظهرها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه تخرق العادة ، فهل يفهم من ذلك أنها تخرق قانون السببية ؟ وإن صح ذلك فهنا يقع التباس بين ك -ون سنة الله لا تتبدل ، وأن قانون السببية غير مطلق الثبات ، بمعنى أنه قد يخرق ، فإن قلت : بأن معرفتنا بقانون السببية جزئية ، ونظرتنا من زاوية محددة ، وعليه فإن قانون السببية من سنن الله الكونية إلا إن سنن الله الكونية ليست معادلة رقمية يتم التنبؤ بها تجريبيًا ، بل الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد ، وعليه فإن مفهوم السنة مفهوم يتميز بثبوته على المبدأ والقيمة والغاية ، ولكن هذا الثبوت لا يعني الجمود ، فالسنة متفاعلة ، وفاعليتها تستمد من تدبير الحكيم الخبير ، إذًا فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول ، ولكنها ليست جامدة بالمعنى الذي قد يتسلل من حقيقة عدم التبدل والتحول ، وإنما عدم التبدل والتحول في المبدأ والغاية ، وليس في التفاعل مع ما يجري ويحدث في الكون من وقائع وأحداث . فالخلاصة سنة الله لا تتحول بمعنى أن المبدأ والقيمة والغاية في ثبوت ، ولكنها تستجيب وتتفاعل مع المتغيرات ، وتحتويها دون أن تتأثر بها أو تكون ناتجه ، وسنن الله الكونية هي آثار قدرته ورحمته ، وليست صفة من صفاته ، ومع هذا لا يمكن التنبؤ بها بناء على الاستقراء والتتبع ، ولكن يمكن التأقلم معها وفق الفطرة السليمة والوحي المتمثل في القرآن والسنة

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، أو ما يعبر عنه بقانون السببية، هو من جملة سنن الله تعالى في الكون.

وقد بدأ الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان، رحمه الله، كتابه "السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية" بفصله الأول الذي عنوانه: "سنّة الله في الأسباب والمسببات: قانون السببية". قال رحمه الله، ص21:

" كل شيء بسبب : وقد دلّ القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب، سواء كان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان، أو بالأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة .

فقانون السببية، أي ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ، هذا القانون عام شامل لكل ما في العالم، ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات " . فمن الأسباب المادية قوله تعالى : (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) . ومن الأسباب المعنوية : (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)".

وقال رحمه الله، ص23: " هذا الكون يجري بموجب أسباب ومسببات، تكوّن قانوناً عاماً هو في غاية الدّقة والإحكام والشمول ، بحيث لا يخرج عنه شيء، ولا يفلت منه مخلوق .. يحكم كل شيء من المخلوقات، بلا استثناء : من أصغر ذرّة إلى أكبر جرم ، ومن الجماد والنبات بأنواعه إلا ذي الروح بأنواعه ، ومن حركة الذّرة في مادتها التي لا نشعر بها، إلى حركة الريح العاصف التي تقلع الأشجار وتخرب البيوت .. فالكل خاضع ومنقاد لهذا القانون الرهيب لا يستطيع منه تفلتاً ولا خلاصاً...

وهذا الخضوع التام من الجميع، ما هو في الحقيقة إلا خضوع للملك القوي الجبار، واضع هذا القانون، وخالق هذا الكون ، وعلى هذا دلّ القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)8 ، وقال تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)9 .

وهذا القانون الإلهي العام المسمى في القرآن الكريم  (سنة الله) لا يقبل التبديل ولا التحويل". انتهى.

والواقع أن ما ذكره المصنف رحمه الله، من أن هذا القانون هو المسمى في القرآن ( سنة الله ) ، وأنه لا يقبل التبديل ولا التحويل، فيه نظر، وهو مما نخالفه فيه.

فمن المعلوم من اعتقاد أهل السنة والجماعة : القول بالعلاقة بين "الأسباب" و"المسببات" ، وأن السبب "يؤثر" في المسبب، بما جعله الله فيه من قوة التأثير، فالنار: هي "السبب" المؤثر في "الإحراق"، وهي التي "تنتج" ذلك الإحراق" في "الجسم" المحترق.

وهكذا "الثلج" هو "سبب" التبريد، وهو الذي "ينتج" و"يؤثر" بالتبريد، في الجسم المتصل به.

و"الماء" هو سبب الإغراق ، و"الطعام" : هو سبب "الإشباع" ، وهكذا دواليك.

فالعلاقة بين "السبب" و"المسبب" : هي علاقة "تأثير" منتِج للأثر. وليست هي مجرد "اقتران" أو "عادة" ، كما يقوله الأشاعرة.

غير أن هذه العلاقة التأثيرية: ليست على جهة الاستقلال، من السبب المؤثر، كما يقوله "الطبائعيون" ، ونحوهم، وهو السبب الذي حدا بالأشاعرة إلى ذلك الغلو المقابل.

بل هي مؤثرة: بما خلق الله جل جلاله فيها من قوة التأثير.

فإن شاء الله تعالى سلبها هذه القوة، على خلاف الأصل الذي جرت، وتجري عليه ، لحكمة له سبحانه ، كما يخرق أمثال هذه العادات لأنبيائه ، وأوليائه الصالحين، لحاجة بهم إلى ذلك، أو إقامة لحجتهم على المعاندين، والمكذبين؛ فيلقى إبراهيم عليه السلام في النار، ولا يحترق، ويقطع موسى عليه السلام بجنده عُرض البحر، ولا يغرق ، ونحو ذلك من أمور المعجزات والكرامات المعروفة.

وليس في نص الكتاب، ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم : وصف هذه السنن بأنها لا تتبدل ، ولا تتحول ، ولا تتغير أبدا ، ليس في شيء من النصوص ذلك الوصف، مضافا إلى السنن الكونية ، وقضايا الأسباب والمسببات ، بل مرد ذلك كله إلى مشيئة الله سبحانه .

ولذلك نحتاج إلى الفرق بين "السنن الطبيعية" و" السنن الشرعية" ، كما يأتي بيانه ، إن شاء الله.

ثانيا:

أخبر الله تعالى في كتابه ، عن عادته في الأقوام، المؤمنين منهم ، والمكذبين؛ فذكر أن سنته في الانتقام من أعدائه، وعذابهم، ونصر أوليائه عليهم، وجعل العاقبة للتقوى؛ أن ذلك كله هي سنته، وعادته الجارية في خلقه، وكونه، وهي سنة لا تتبدل، ولا تتحول.

قال الله تعالى:   وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا  الكهف/55 .

قال الشيخ السعدي رحمه الله:

" أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق، بين الهدى والضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان، عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا، عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم، ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له." انتهى، من "تفسير السعدي" (480).

وقال تعالى:  وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا  فاطر/42-43 .

" أي وأقسم هؤلاء، الذين كذبوك يا رسول الله، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ أي: أهدى من اليهود والنصارى [أهل الكتب] ، فلم يفوا بتلك الإقسامات والعهود.

فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لم يهتدوا، ولم يصيروا أهدى من إحدى الأمم، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي كان، بل مَا زَادَهُمْ ذلك إِلا نُفُورًا وزيادة ضلال وبغي وعناد.

وليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون على طلبه، فيغتر به المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون.

وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل إِلا بِأَهْلِهِ فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان الله لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات، أنهم كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد الله كيدهم في صدورهم.

فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك." انتهى، من "تفسير السعدي" (691).

وقال تعالى:  أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ  غافر/82-85 .

قال الشيخ السعدي رحمه الله:

" يحث تعالى، المكذبين لرسولهم، على السير في الأرض، بأبدانهم، وقلوبهم: وسؤال العالمين. فَيَنْظُرُوا نظر فكر واستدلال، لا نظر غفلة وإهمال.

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة، كعاد، وثمود وغيرهم، ممن كانوا أعظم منهم قوة وأكثر أموالا وأشد آثارًا في الأرض من الأبنية الحصينة، والغراس الأنيقة، والزروع الكثيرة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ حين جاءهم أمر الله، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا افتدوا بأموالهم، ولا تحصنوا بحصونهم.

ثم ذكر جرمهم الكبير فقال: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ من الكتب الإلهية، والخوارق العظيمة، والعلم النافع المبين، للهدي من الضلال، والحق من الباطل فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ المناقض لدين الرسل.

ومن المعلوم، أن فرحهم به، يدل على شدة رضاهم به، وتمسكهم، ومعاداة الحق، الذي جاءت به الرسل، وجعل باطلهم حقًا، وهذا عام لجميع العلوم، التي نوقض بها، ما جاءت به الرسل، ومن أحقها بالدخول في هذا، علوم الفلسفة، والمنطق اليوناني، الذي رُدَّت به كثير من آيات القرآن، ونقصت قدره في القلوب، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة، أدلة لفظية، لا تفيد شيئًا من اليقين، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل، وهذا من أعظم الإلحاد في آيات الله، والمعارضة لها، والمناقضة، فالله المستعان.

وَحَاقَ بِهِمْ أي: نزل مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ من العذاب.

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا أي: عذابنا، أقروا حيث لا ينفعهم الإقرار قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ من الأصنام والأوثان، وتبرأنا من كل ما خالف الرسل، من علم أو عمل.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا أي: في تلك الحال، وهذه سُنَّةَ اللَّهِ وعادته الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ أن المكذبين حين ينزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا، كان إيمانهم غير صحيح، ولا منجيًا لهم من العذاب، وذلك لأنه إيمان ضرورة، قد اضطروا إليه، وإيمان مشاهدة، وإنما الإيمان النافع الذي ينجي صاحبه، هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيمانًا بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب.

وَخَسِرَ هُنَالِكَ أي: وقت الإهلاك، وإذاقة البأس الْكَافِرُونَ دينهم ودنياهم وأخراهم، ولا يكفي مجرد الخسارة، في تلك الدار، بل لا بد من خسران يشقي في العذاب الشديد، والخلود فيه، دائما أبدًا." انتهى، من "تفسير السعدي" (743).

ثالثا:

وبهذا يتبين أن سنة الله لا تتبدل، ولا تتحول ، وهي التي أمر عباده بتدبرها، والانتفاع بها : هي سنته الشرعية الدينية ؛ بنصر أنبيائه ورسله ، ورفع أهل الإيمان على  من خالفهم وعاداهم في الدنيا والآخرة . والانتقام ممن كذب رسله، وعاندهم، وعاداهم ، وحاربهم.

وأما سنته الكونية، الطبيعية: فهي جارية، بقدر الله، وخلقه؛ فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.

وإذا خرقها الله تعالى، بقدرته، وحكمته، ومشيئته: فليس في ذلك إبطال لها ، ولا إبطال لنواميس الكون، ولا خلف لسنة الله، بل بيان أن ذلك كله إنما يجري بقدر الله ، وقدرته ، وحكمته ، وليس مرد ذلك إلى طبائع الأشياء التي لا تتبدل ، كما يقوله من يقوله من أعدائه الطبائعيين ـ الدهريين ـ

وليس ذلك أيضا نفيا لأصل هذه السنة، ولا لتأثير الأسباب في مسبباتها ، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام.

وقد نص على ذلك الفرق بين الأمرين، بوضوح : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في مواضع من كتبه. قال:

"  وأما ما يشتركون فيه ، هم وسائر الناس : فهذا ليس مضافا إليهم ، ولا هو من علمهم ؛ فأين البرهان على العلوم الفلسفية ؟

مع العلم بأن العاديات ، التي هي عامة علومهم الكلية : منتقضة ، كما بيناه في غير هذا الموضع؛  فنحن نعلم أنه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا : برهان يقيني ، ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم.

ولكن العادة التي لا تنتقض بحال : ما اخبر الله أنها لا تنتقض ، كقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً . وقال:      وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً . وقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً.

فهذه سنة الله ، وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب ، على الكافرين ، وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل ، بعذاب من عنده ، أو بأيدي المؤمنين = هي سنة الله التي لا توجد منتقضة قط .

وكما قال قبل هذا مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ؛ لم يقل هنا : ( ولن تجد ) ؛ لأن هذه سنة شرعية ، لا تُرى بالمشاهدة ، بل تُعلم بالوحي ؛ بخلاف نصره للمؤمنين وعقوبته للمنذرين ؛ فإنه أمر مشاهد ، فلن يوجد منتقضا." انتهى، من "الرد على المنطقيين" (389) .

وينظر أيضا للأهيمة: كتاب "النبوات" (2/867) وما بعدها .

ولشيخ الإسلام رحمه الله، كلام أوضح في تحرير الفرق بين السنتين: السنة الدينية التي أخبر عباده، ووعدهم : أنها لا تتبدل، ولا تتحول . والسنة الكونية التي مردها إلى مشيئته واختياره سبحانه. قال:

" اعلم أنه قد ذكر الله تعالى لفظ (سننه) في مواضع من كتابه..." .

فذكر الآيات السابقة، ثم قال:

" وهذه السنن : كلها سنن تتعلق بدينه ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده .

وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية ، كسنته في الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من العادات ؛ فإن هذه السنة : ينقضها إذا شاء ، بما شاءه من الحِكم . كما حبس الشمس على يوشع ، وكما شق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكما ملأ السماء بالشهب ، وكما أحيا الموتى غير مرة ، وكما جعل العصا حية ، وكما أنبع الماء من الصخرة بعصا ، وكما أنبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم" . انتهى، من "جامع الرسائل"، لشيخ الإسلام، ت: محمد رشاد سالم (1/49-52).

وبهذا يتبين الجواب عن إشكال السائل:

وأن تخلف السنة الكونية، لمشيئة الله ، وحكمته : لا يخالف ما وعد به من أن سنته لا تتبدل، ولا تتحول.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب