الحمد لله.
أولا: السابقون هم المقربون من الله تعالى يوم القيامة
السابقون هم المقربون من الله تعالى يوم القيامة، وهذه القربى تنال بتحقيق أسبابها من الاجتهاد بالتقرب إلى الله تعالى بعبادته في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قالوا : وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر ، كما قال تعالى ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي : وفق أعمالهم ، وهذا ثابت شرعا وقدرا " انتهى من" عون المعبود مع حاشية ابن القيم " (12 / 176).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ رواه البخاري (6502).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما، كما قال تعالى: ( وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ) يعني الحب المطلق...
فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11 / 179 - 180).
لكن ينبغي للمسلم أن يتنبه، إلى أن الأعمال بالخواتيم، فلا يشترط للمقرب أن يكون متصفا بهذه الصفة من بداية إسلامه أو توبته أو تكليفه، بل العبرة بالخاتمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الصديق رضي الله عنه إنما كملت مرتبته وانتهت درجته وتم علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما نال ذلك بفعل ما أمر الله به ومن الأعمال الصالحة وأفضلها التوبة ..." انتهى من " المستدرك على مجموع فتاوى" (1 / 213).
فلذا على المسلم أن يسوس نفسه بأن يضعها على السبيل الذي يوصل إلى المراتب العليا، لكن بحكمة من غير غلو، فإن أبواب النوافل كثيرة ومجالها واسع، فعلى المسلم أن يتوغل ويتدرج فيها برفق حتى لا يمل فيكره العبادة، بل يعود نفسه على نوافل العبادات شيئا فشيئا، والعبرة بالمداومة.
عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ" رواه البخاري (43)، ومسلم (785).
وأساس التدرج في مراتب الكمال هو العلم بالكتاب والسنة؛ لأن المسلم لا يصل إلى مبتغاه من القرب من الله تعالى إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ آل عمران/31 - 32.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ..." انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 32).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فقال ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ) أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 128).
فلذا يحسن بالمسلم أن يبذل جهده في تعلم نصوص الكتاب والسنة والتفقه فيهما والعمل بهما.
ثانيا: المراد بالأولين في قوله الله تعالى (ثلة من الأولين)
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الواقعة/10 - 14.
فالمراد بــ (الْأَوَّلِينَ) محل خلاف بين أهل التفسير، فذهب بعضهم إلى أنهم الأمم السابقة.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى ذكره: جماعة من الأمم الماضية، وقليل من أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهم الآخرون وقيل لهم الآخرون: لأنهم آخر الأمم " انتهى من "تفسير الطبري" (22 / 291).
وعمدة هذا التفسير سياق الآية؛ لأنها في سياق بيان حال الناس جميعهم يوم القيامة، وليس السياق خاصا ببيان مراتب أهل هذه الأمة.
وترجح لجماعة من أهل العلم أن المراد بــ (الْأَوَّلِينَ) هم سلف هذه الأمة، وعمدة هذا القول النصوص الواردة في فضل هذه الأمة وكثرتها في الجنة مقابل سائر الأمم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا، فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة.
والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم، والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام، هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله: ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) أي: من صدر هذه الأمة، ( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي: من هذه الأمة...
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السري بن يحيى قال: قرأ الحسن: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) ثلة ممن مضى من هذه الأمة.
وحدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري، حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، أنه قال في هذه الآية: ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) قال: كانوا يقولون، أو يرجون، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة. فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة.
ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن يعم الأمر جميع الأمم كل أمة بحسبها؛ ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها، من غير وجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) الحديث بتمامه...
والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة؛ لشرف دينها وعظم نبيها... " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7 / 518 - 519).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ) قيل: إن المراد بذلك الأمم السابقة ( وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) يعني أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا القول تكون قلة هذه الأمة باعتبار كثرة الأمم السابقة، وليس المعنى أن الذين يدخلون الجنة من الأمم السابقين، باعتبار كل نبي: أكثر من الذين يدخلون الجنة من هذه الأمة.
وقيل: المراد بالأولين أول هذه الأمة، أي: ثلة من أول هذه الأمة، وقليل من آخرها، وهذا القول هو الصحيح، بل هو المتعين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( إني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ) أي نصفهم، وفي حديث آخر: ( إن أهل الجنة مائة وعشرون صفًّا منهم ثمانون من هذه الأمة ).
وعلى هذا لا يصح أن نقول قليل من هذه الأمة، وكثير من الأمم السابقة، بل نقول: ثلة أي كثير من هذه الأمة من أولها، وقليل من آخرها " انتهى من "التفسير من الحجرات إلى الحديد" (ص 331).
لكن على القول بأن ( الْأَوَّلِينَ ) هم الأمم السابقة، فليس هذا فيه عذر للتقاعس عن مراتب الكمال؛ لأن المسلم لا يعلم بخاتمة حاله؛ فلذا يرجو بلوغ المراتب العالية، وذلك بالاستجابة لأمر الله تعالى، كقول الله تعالى:( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الزمر/55.
وقول الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ الزمر/17 - 18.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فقد أمر المؤمنين باتباع أحسن ما أنزل إليهم من ربهم ...
واتباع القول إنما هو العمل بمقتضاه، ومقتضاه فيه حسن وأحسن...
قال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) والقرآن تضمن خبرا وأمرا فالخبر عن الأبرار والمقربين ... فلا ريب أن اتباع الصنفين حسن واتباع المقربين أحسن، والأمر يتضمن الأمر بالواجبات والمستحبات. ولا ريب أن الاقتصار على فعل الواجبات حسن وفعل المستحبات معها أحسن، ومن اتبع الأحسن فاقتدى بالمقربين وتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض كان أحق بالبشرى " انتهى من "مجموع الفتاوى" (16 / 6 - 7).
وعلى المسلم أن لا ييأس من الوصول إلى المراتب الرفيعة؛ فإن اليأس من فضل الله وكرمه منهي عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ما من سالك إلا وله غاية يصل إليها. وإذا قيل: وصل إلى الله أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده: كبيرة من الكبائر؛ بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه.
لكن من رجا شيئا طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه.
وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد ، فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال.
وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ، ولا يحصل له حلاوة الإيمان ، ونور الهداية : فليكثر التوبة والاستغفار، وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان ، فإن الله يقول: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .
وعليه بإقامة الفرائض ، ظاهرا وباطنا؛ ولزوم الصراط المستقيم ، مستعينا بالله؛ متبرئا من الحول والقوة إلا به " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11 / 389 - 391).
فعلى الراغب في المراتب العالية أن يجمع مع الاجتهاد في العلم والعمل ، حسن الظن بالله تعالى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" قيل: معناه: بالغفران له ؛ إذا استغفرني، والقبول إذا أناب إليّ ، والإجابة إذا دعاني، والكفاية إذا استكفاني، لأن هذه الصفات لا تظهر من العبد إلا إذا أَحسن ظنه بالله وقوى يقينه " انتهى من "اكمال المعلم" (8 / 172).
ثالثا: ظاهر النصوص يدل على أن الصديقين من صنف المقرّبين
الصديقون هم صنف من المقربين كما يفهم من ظواهر النصوص، فالمقربون فيهم الكمّل من الصديقين، والشهداء، والصالحين.
قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا النساء/69.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة والصديقية والشهادة والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ... " انتهى من " مفتاح دار السعادة" (1 / 222).
لكن الصديقين هم الأكمل.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" فأكمل الخلق من حقق متابعته وتصديقه ، قولا وعملا وحالا ، وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم: أبو بكر - خليفته بعده - وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين ، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: ( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم، قال: إي والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ). " انتهى من "فتح الباري" (1 / 54).
والصديق ليس مجرد الصادق في الكلام، فهذا صفة من صفاته، بل الصديق الصادق في حاله وإيمانه ولهجته وعباداته، المصدق للوحي على وجه اليقين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والمدح للصديق الذي صدق الأنبياء، ليس بمجرد كونه صادقا، بل في كونه مصدقا للأنبياء. وتصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم هو صدق خاص، فالمدح بهذا التصديق - الذي هو صدق خاص - نوع، والمدح بنفس كونه صادقا نوع آخر؛ فكل صديق صادق، وليس كل صادق صديقا...
فالصديق قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يراد به الكامل في التصديق. والصديق ليست فضيلته في مجرد تحري الصدق، بل في أنه علم ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا، وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل " انتهى من "منهاج السنة" (4 / 266 - 267).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ... فالصدق: في هذه الثلاثة:
فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق.
وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به: تكون صديقيته. ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ذروة سنام الصديقية، حتى سمي "الصديق" على الإطلاق، والصديق أبلغ من الصدوق ، والصدوق أبلغ من الصادق.
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم، مع كمال الإخلاص للمرسل...
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الصدق يهدي إلى البر. وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور. وإن الفجور يهدي إلى النار. وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) .
فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها. وهي غايته. فلا ينال درجتها كاذب ألبتة. لا في قوله، ولا في عمله، ولا في حاله. ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته، ونفي ما أثبته، أو إثبات ما نفاه عن نفسه؛ فليس في هؤلاء صديق أبدا.
وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه. بتحليل ما حرمه. وتحريم ما لم يحرمه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما لم يوجبه، وكراهة ما أحبه، واستحباب ما لم يحبه. كل ذلك مناف للصديقية.
وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين، والزاهدين المتوكلين. وليس في الحقيقة منهم.
فلذلك كانت الصديقية: كمال الإخلاص والانقياد، والمتابعة للخبر والأمر، ظاهرا وباطنا " انتهى من "مدارج السالكين" (3 / 2105 - 2112).
فالصديقية تقوم على الرسوخ في العلم بنصوص الوحي، مع كمال التصديق بها، ومع كمال الاتباع والعمل بمقتضاها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والصّدّيقيّة: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول، علما وتصديقا وقياما به؛ فهي راجعة إلى نفس العلم، فكلّ من كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقا له كان أتمّ صدّيقيّة؛ فالصّدّيقيّة شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل " انتهى من" مفتاح دار السعادة" (1 / 223).
رابعا: الحالات التي يجوز فيها الكذب
قد سبق في الموقع بسط الكلام حول جواز الكذب إذا تعيّن لدفع المفاسد وجلب المصالح، كما في جواب السؤال رقم : (154955).
لكن يجب التنبه، إلى أن مجرد مراعاة الخواطر ليست عذرا للكذب، لأن مجرد وقوع الشخص في موقف محرج ونحو هذا ليس فيه مفسدة شرعية، فليست هذه المواقف مما يجب دفعها.
والله أعلم.
تعليق