الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

ما حكم قيام الليل كله على الدوام؟

330214

تاريخ النشر : 28-02-2021

المشاهدات : 22140

السؤال

قرأت عن بعض الصحابة وعن الصحابي عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه كان يصلي قيام الليل كاملا، يعني يصلي الليل من بعد صلاة العشاء إلى الفجر كل يوم. السؤال: إذا كان يقوم الليل كله كل يوم، فكيف كان ينام، هل مثلا ينام في النهار، وإذا كان ينام في النهار، فكيف كان يعمل لكي يجلب قوت يومه؟

ملخص الجواب

1. أحبّ القيام إلى الله قيام داود عليه السلام، وهو ثلث الليل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان. 2. من ترتب على قيامه الليل كله ضرر في دينه أو دنياه: كره له ذلك كراهة شديدة، بل قد يحرم إن أدى لضياع واجب. 3. من لم يترتب على قيامه الليل كله ضرر، فالأولى له هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإن فعله، لا يُنكر عليه، فقد فعله جماعة من السلف.

الحمد لله.

أولا: 

حكم قيام الليل كله

قيام الليل شرف المؤمن، ومن أعظم القربات إلى الله تعالى.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل القيام هو أن يقوم العبد ثلث الليل، وهو قيام داود عليه السلام.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:  أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا   أخرجه البخاري في "صحيحه" (1131)، ومسلم في "صحيحه" (1159).

وأما قيام الليل كله: فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر من رمضان، وما سوى ذلك من الليالي، فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم المحفوظ أن يقوم الليل أجمع، بل كان يخلط قيامه بنوم، حتى قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ"أخرجه مسلم في "صحيحه" (746).

أما الصحابة رضوان الله عليهم فلم يثبت عن أحد منهم أنه كان يواظب على قيام الليل كله، وقد ورد ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وتميم الداري، ولم يصح عن واحد منهم.

توجيه ما ورد عن بعض الصحابة بشأن قيام الليل كله

أما ما ورد عن عمر بن الخطاب في ذلك، فقد أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/312)، من طريق محمد بن عمر الواقدي، قال حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَحْدَثَ فِي زَمَانِ الرَّمَادَةِ أَمْرًا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، لَقَدْ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعَشَاءَ، ثُمَّ يَخْرُجُ حَتَّى يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَلَا يَزَالُ يُصَلِّي حَتَّى يَكُونَ آخِرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَأْتِي الْأَنْقَابَ فَيَطُوفُ عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُهُ لَيْلَةً فِي السَّحَرِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ هَلَاكَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى يَدَيَّ ".

وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الله بن نافع القرشي العدوي المدني، قال فيه البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وتركه النسائي، كذا من "تهذيب الكمال" (16/214)، وفيه محمد بن عمر الواقدي متروك أيضا.

وأما عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد صحَ عنه أنه قرأ القرآن كله في ركعة في ليلة، وأما أنه كان يداوم على قيام الليل كله: فهذا لا يثبت عنه.

فقد أخرج أحمد بن منيع في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3909)، من طريق مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عثمان قال:" رأيت عثمان رضي الله عنه ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ الْمَقَامِ، قَدْ تَقَدَّمَ، فَقَرَأَ القرآن في ركعة، ثم انصرف"وإسناده حسن.

وأما أنه كان يحيي الليل كله، فقد روي عنه من طريقين:

الأول: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/87)، وابن أبي شبة في "تاريخ المدينة" (4/1272)، من طريق مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَت امْرَأَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ أَطَافُوا بِهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ: "إِنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تَتْرُكُوهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنَ".

وإسناده منقطع، فإن محمد بن سيرين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، فلم يدركه.

وفي "معرفة الصحابة"، لأبي نعيم (259)، عن محمد بن سيرين، قال: نُبِّئت أن امرأة من نساء عثمان، قالت: "إن تقتلوه، أو تتركوه؛ فقد كان يحيي الليلة في ركعة، يجمع فيها القرآن".

فقد بين أنه لم يسمعه من عثمان، ولا من امرأته، فهو منقطع. 

الثاني: أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1275)، من طريق بكير بن الأشج، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ:" قَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا".

وإسناده منقطع أيضا، فإن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين، وقتل عثمان شهيدا سنة خمس وثلاثين، فلم يدركه.

مع أنه لم ينص فيه أيضا على المداومة على ذلك، فعاد إلى الرواية الأولى الثابتة عنه.

وإن ثبت مثل ذلك عن عثمان رضي الله عنه فإنه لا يدل على مداومته على قيام الليل كله، خاصة وأنه قد رُوي عن خادمته رهيمة أنه كان ينام أول الليل ثم يقوم.

وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6611)، من طريق الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُهَيْمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ، قَالَتْ:"كَانَ عُثْمَانُ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ إِلَّا هَجْعَةً مِنْ أَوَّلِهِ".

وإسناده ضعيف، فيه الزبير بن عبد الله بن رهيمة، قال فيه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (3/582):" صالح "،وقال فيه ابن معين كما في "ميزان الاعتدال" (2/68): " يكتب حديثه ". اهـ، وجدته مجهولة ترجم لها ابن حبان في "الثقات" (2731)، ولم يذكر فيها جرحا ولا تعديلا، إلا أنه ذكر أنها كانت خادمة عثمان رضي الله عنه، وهي جدة الزبير، ومثل هذا تطلع عليه، فيستأنس به، وهذا هو الأولى بعثمان رضي الله عنه.

وأما تميم الداري فقد أخرجه عنه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1896)، من طريق زهير بن معاوية، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال:"كان تميم الداري يحيى الليل كله بالقرآن كله في ركعة".

وإسناده فيه انقطاع، حيث لم يسمع محمد بن سيرين من تميم الداري، ذكر ذلك الحافظ السخاوي في "فتح المغيث" (1/228).

نقول ذلك، مع أنه لا يخفى أن رواية أخبار السلف في مثل ذلك يتساهل في أسانيدها ما لا يتساهل في الأحاديث، ولا في مقالات السلف العلمية، واختياراتهم الفقيهة، ونحو ذلك. 

هل ورد عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يصلي الليل كله؟

وأما عطاء بن أبي رباح الذي ذكره السائل: فإنه ليس من الصحابة كما جاء في السؤال، وإنما هو من التابعين، ثم إنه لم يرد عنه – فيما وقفنا عليه - أنه كان يصلي الليل كله، وإنما الذي ورد عنه ذلك هو عطاء الخراساني، وهو من التابعين أيضا.

أخرجه عنه الإمام أحمد في "الزهد" (382)، من طريق الوليد بن مسلم، قال حدثنا ابن جابر، قال:"كنا نعازي مع عطاء الخراساني، وكان يحيى الليل صلاة" وإسناده صحيح عنه.

وقد ورد عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يحيون الليل كله بالصلاة، منهم صفوان بن سليم كما في "مسند الموطأ" للجوهري (440)، ومنهم محمد بن واسع، كما في "حلية الأولياء" (2/346)، ومنهم سليمان التيمي، كما في "شعب الإيمان" للبيهقي (2949).

ثانيا: 

حكم المداومة على قيام الليل كله

المداومة على قيام الليل كله خلاف الهدي النبوي، وقد نص على كراهته غير واحد من أهل العلم، إذا كان على صفة الدوام. ومن رخص في ذلك ونحوه من السلف، وهم كثيرون، وهو الظاهر أيضا من أحوال السلف، فهو بشرط ألا يضيع عليه صلاة الصبح، ولا يؤدي إلى ضرر في دينه أو دنياه.

فقد روى البخاري في "صحيحه" (1151)، من حديث عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ:" كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:  مَنْ هَذِهِ؟  قُلْتُ: فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ، فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا، فَقَالَ:  مَهْ؛ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا .

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (3/37) في شرحه لهذا الحديث:" وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: لَا أَكْرَهُهُ، إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ أَنْ يُضِرَّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ.

وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جَوَابِ ذَلِكَ: (مَهْ): إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ خَشْيَةَ الْفُتُورِ وَالْمَلَالِ عَلَى فَاعِلِهِ، لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ عِبَادَةٍ الْتَزَمَهَا، فَيَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا بَذَلَ لِرَبِّهِ مِنْ نَفْسِهِ " انتهى.

وقال النووي في "شرح مسلم" (8/41):

" وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ: فَهُوَ عَلَى إطلاقه، وغير مُخْتَصٍّ بِهِ؛ بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ صَلَاةُ كُلِّ اللَّيْلِ دَائِمًا، لِكُلِّ أَحَدٍ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ، فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَا يُفَوِّتُ حَقًّا: بِأَنَّ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ، وَتَفْوِيتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنَمْ بِالنَّهَارِ فَهُوَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ نَامَ نَوْمًا يَنْجَبِرُ بِهِ سَهَرُهُ، فَوَّتَ بَعْضَ الْحُقُوقِ. بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي بَعْضَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي بِنَوْمِ بَاقِيهِ، وَإِنْ نَامَ مَعَهُ شَيْئًا فِي النَّهَارِ: كَانَ يَسِيرًا لَا يَفُوتُ بِهِ حَقٌّ.

وَكَذَا مَنْ قَامَ لَيْلَةً كَامِلَةً كَلَيْلَةِ الْعِيدِ أَوْ غَيْرِهَا، لَا دَائِمًا: لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، لِعَدَمِ الضَّرَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى.

 وقال ابن العربي في "المسالك في شرح موطأ مالك" (2/487):" وقد اختلف قولُ مالك فيمن يُحْيى اللَّيْلَ كلّه: فكرهه مرّة، وأَرْخَصَ فيه مرَّة، وقال: لعلّه يصبح مغلوبًا، وفي رسولِ الله - صلّى الله عليه وسلم – أُسْوَة، كان يصلِّي أَدْنَى من ثُلْثَي اللَّيلِ ونصفه، فإذا أصابه النّوم، فَلْيَرقُدْ حتّى يذهبَ عنه.

ثمّ رجع عن هذا وقال: لا بأس به ما لم يَضُرَّ بصلاة الصُّبح. وإن كان يأتيه الصّبح وهو ناعس فلا يفعل "انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" (4/28):" الْمُدَاوَمَةُ عَلَى قِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ: لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ عَنْهُ " انتهى.

لذا من المتقرر عند أهل العلم أن من تسبب قيامه الليل كله، في ضياع واجب عليه، في دينه أو دنياه: أن فعله ذلك ممنوع شرعا.

قال الحطاب الرعيني في "مواهب الجليل" (1/410):" وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق، فِي قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ: قَالَ الْمَشَايِخُ: وَاِتِّخَاذُ ذَلِكَ عَادَةً، مِنْ غَيْرِ حَالَةٍ غَالِبَةٍ: لَيْسَ شَأْنَ السَّلَفِ.

هَذَا، وَإِذَا أَدَّى لِفَوَاتِ الْجَمَاعَةِ يُكْرَهُ، وَأَمَّا إنْ أَدَّى لِفَوَاتِ الْوَقْتِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ، أَوْ تَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ "انتهى.

ثالثا: 

حكم قيام الليل كله إذا لم يترتب عليه ضرر

أما إن كان قيام الليل كله لا يترتب عليه ضرر في دين العبد أو دنياه، فقد اختلف أهل العلم فيه فأجازه بعض أهل العلم، بل استحبه، منهم المحب الطبري وغيره، وعليه يحمل فعل من نقل عنه ذلك من السلف، ومنهم من أبقاه على الكراهة وإن لم يحدث منه ضرر.

قال علاء الدين ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/896):" ومنها: كراهة قيام كل اللَّيل، ونقلت الكراهة عن جماعة، ودليلهم: رد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على من أراده، ولِمَا يتعلق بفعله من الإجحاف بوظائف، من الدِّين وغيره، عديدة.

وقال أصحاب الشَّافعي - رحمهم الله -: يُكره قيام كل اللَّيل، دائما، لكل واحد، وفرَّقوا بينه وبين صوم الدَّهر في حقِّ من لا يتضرَّر به... وذكر كلام النووي السابق بلفظه.

ثم قال: وتأوَّل جماعة من المتعبدين من السَّلف وغيرهم ردَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قيام كلِّ اللَّيل والنَّهي عنه، على الرِّفق بالمكلَّف فقط؛ لا على الكراهة الشرعية، والله أعلم"انتهى.

وقال تقي الدين الحصني الشافعي في "كفاية الأخيار" (ص88):" وَيكرهُ قيام اللَّيْل كُله، قَالَ فِي الرَّوْضَة: إِذا داوم عَلَيْهِ. لِأَنَّهُ مُضر للعينين والجسد، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فَإِن لم يجد بذلك مشقة: اسْتحبَّ، لَا سِيمَا للتلذذ بمناجاة الله سُبْحَانَهُ. فَإِن وجد بذلك مشقة ومحذوراً: كره، وَإِلَّا لم يكره، ورفقه بِنَفسِهِ أولى " انتهى.

وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/66):" وَيُكْرَهُ إدَامَةُ قِيَامِ كل اللَّيْلِ، كما صُرِّحَ بِهِ في الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا، تَبَعًا لِلْمُهَذَّبِ، لِنَهْيِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنهما عن ذلك، لِأَنَّهُ يُضِرُّ بِالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، كما في الحديث.

وَفَرَّقَ في شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ كَرَاهَةِ صِيَامِ الدَّهْرِ: بِأَنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ دُون هذا، وَبِأَنَّ من صَامَ الدَّهْرَ، يُمْكِنهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِاللَّيْلِ ما فَاتَهُ من أَكْلِ النَّهَارِ، وَمُصَلِّي اللَّيْلِ لَا يُمْكِنهُ نَوْمُ النَّهَارِ، لِمَا فيه من تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. اهـ.

وَنَازَعَهُ الْأَذْرَعِيُّ في هذا الْفَرْقِ بِمَا فيه نَظَرٌ. وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي اسْتِوَاؤُهُمَا، يَرُدّهُمَا تَصْرِيحُ الحديث بِأَنَّ قِيَامَ كل اللَّيْلِ مُضِرٌّ، ولم يُصَرِّح بِنَظِيرِهِ في صَوْمِ الدَّهْرِ. وَحِكْمَتُهُ ما مَرَّ، وَأَنَّ من قام كُلَّ اللَّيْلِ لَا يَحْتَاجُ لِنَوْمِ غَالِبِ النَّهَارِ، بَلْ يَكْفِيه سَاعَةٌ منه؛ يَرُدّهَا: أَنَّ الْحِسَّ بِخِلَافِهَا، وَأَنَّ من قَامَهُ كُلَّهُ، كَمَنْ هَجَعَ منه هَجْعَةً، فَلَا يُكْرَهُ لِلْأَوَّلِ قِيَامُهُ كَالثَّانِي؛ يَرُدّهَا الْحِسّ أَيْضًا، إذْ نَوْمُ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ يُزِيلُ ضَرَرَهُ بِخِلَافِ سَهَرِ كُلِّهِ.

وَالْكَلَامُ في الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْفَارِغِ عن الشَّوَاغِلِ، الْمُتَلَذِّذ بِمُنَاجَاةِ الْحَبِيبِ، الْمُنَعَّمِ بها.

ثُمَّ اُسْتُحْسِنَ قَوْلُ صَاحِبِ الِانْتِصَارِ: يُكْرَه قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ لِمَنْ يُضْعِفُهُ ذلك عن الْفَرَائِضِ. وَقَوْلُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ: قِيَامُ كُلِّهِ فِعْلُ جَمَاعَةٍ من السَّلَفِ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الرِّفْقِ بِالْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَال ذلك فِيمَنْ يَجِد بِهِ مَشَقَّةً يَخْشَى منها مَحْذُورًا، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ له، لَا سِيَّمَا لمُنَاجَاةِ ربه. وَمَنْ يَشُقُّ عليه، ولم يَخَفْ ضَرَرًا: لم يُكْرَه له، وَرِفْقه بِنَفْسِهِ أَوْلَى. اهـ.

وَالْمُعْتَمَدُ: إطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ ذلك من شَأْنِهِ أَنَّهُ يَضُرُّ، فَلَا فَرْقَ بَيْن من يَجِد منه ضَرَرًا، أو لا؛ لِأَنَّ من لم يَجِد منه، لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَهُ وَلَوْ بَعْد مُدَّةٍ، فَكَانَ الْمُعْتَمَدُ ما أَطْلَقَهُ النَّوَوِيُّ وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ... قال في الْمُهِمَّاتِ: وهو الْأَصَحُّ " انتهى.

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/272):" فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ الْمَأْمُورَ بِهِ، الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا ، وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ.

وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ: " اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ ".

فَمَتَى كانت الْعِبَادَةُ تُوجِبُ لَهُ ضَرَرًا يَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا، كَانَتْ مُحَرَّمَةً؛ مِثْلُ أَنْ يَصُومَ صَوْمًا يُضْعِفُهُ عَنْ الْكَسْبِ الْوَاجِبِ، أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْعَقْلِ أَوْ الْفَهْمِ الْوَاجِبِ، أَوْ يَمْنَعُهُ عَنْ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ.

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُوقِعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ لَا يُقَاوِمُ مَفْسَدَتَهُ مُصْلِحَتُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْرِجَ مَالَهُ كُلَّهُ، ثُمَّ يَسْتَشْرِفُ إلَى أَمْوَالِ النَّاسِ وَيَسْأَلُهُمْ.

وَأَمَّا إنْ أَضْعَفَتْهُ عَمَّا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا، وَأَوْقَعَتْهُ فِي مَكْرُوهَاتٍ: فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ " انتهى.

وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/465):" وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ الْغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) المائدة/77. 

وَالْغُلُوُّ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا، كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْيِ، أَوْ رَمَى الْجَمَرَاتِ بِالصَّخْرَاتِ الْكِبَارِ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ، أَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَشْرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا.

وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ وَالِاسْتِحْسَارُ، كَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ، وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَوْرَادِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسِّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ؛ يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَسْتَعِينُ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالسَّيْرِ فِيهَا " انتهى.

والحاصل من ذلك كله، وملخصه: 

أن أحبّ القيام إلى الله قيام داود عليه السلام، وهو ثلث الليل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، وأن من ترتب على قيامه الليل كله ضرر في دينه أو دنياه: كره له ذلك كراهة شديدة، بل قد يحرم إن أدى لضياع واجب، حيث إن الوسائل لها أحكام المقاصد. ومن لم يترتب على قيامه ضرر: فالأولى له هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإن فعله، لا يُنكر عليه، فقد فعله جماعة من السلف.

ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة الجواب رقم:(178293).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب