الحمد لله.
أولا:
حول خلق آدم وخلق الملائكة
جاءت الأدلة من القرآن والسنة على أن الله خلق آدم من تراب، وخلق الملائكة من نور.
قال الله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ الروم/20.
وأخرج مسلم في "صحيحه" (2996)، من حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ .
مادة الخلق للناس يوم القيامة
وأيضا جاءت الأدلة من القرآن والسنة تدل على أن الله كما بدأ الخلق يعيده، وعلى أنه يخرج الناس من الأرض، أي أن مادة الخلق للناس يوم القيامة تكون من الأرض، وليس من النور.
قال الله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الأنبياء/104. وقال الله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى طه/55. وقال الله: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) نوح/17-18.
وأخرج مسلم في "صحيحه" (2940)، من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ .
وفي حديث البراء المشهور، الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (18534)، وصححه الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (ص157)، جاء فيه: فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى .
قال الطبري في "تفسيره" (16/86): "وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ يَقُولُ: وَمِنَ الْأَرْضِ نُخْرِجُكُمْ كَمَا كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ أَحْيَاءً، فَنُنْشِئُكُمْ مِنْهَا، كَمَا أَنْشَأْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ." انتهى.
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (17/252): "وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّشْأَة الْأُولَى كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَة ثُمَّ عَلَقَة ثُمَّ مُضْغَة مُخَلَّقَة، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَتِلْكَ النُّطْفَةُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ يُغَذِّيهِ بِدَمِ الطَّمْثِ الَّذِي يُرَبِّي اللَّهُ بِهِ الْجَنِينَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ: ظُلْمَةٍ الْمَشِيمَةِ، وَظُلْمَةِ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةِ الْبَطْنِ.
وَالنَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَكُونُونَ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ، وَلَا يُغَذُّونَ بِدَمِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمْ نُطْفَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً، بَلْ يَنْشَئُونَ نَشْأَةً أُخْرَى، وَتَكُونُ الْمَادَّةُ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ، وَقَالَ تَعَالَى: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ وَقَالَ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا ، وَفِي الْحَدِيثِ: إنَّ الْأَرْضَ تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ كَذَلِكَ النُّشُورُ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .
وقال ابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (ص409):
"وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْأَجْسَامَ تَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَتَسْتَحِيلُ تُرَابًا، ثُمَّ يُنْشِئُهَا اللَّهُ نَشْأَة أُخْرَى، كَمَا اسْتَحَالَ فِي النَّشْأَة الْأُولَى: فَإِنَّهُ كَانَ نُطْفَة، ثُمَّ صَارَ عَلَقَة، ثُمَّ صَارَ مُضْغَة، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا وَلَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَه خَلْقًا سَوِيًّا.
كَذَلِكَ الْإِعَادَة: يُعِيدُه اللَّهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى كُلُّهُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّ السماء تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِي الرِّجَالِ، يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ .
فَالنَّشْأَتَانِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ، يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلَانِ مِنْ وَجْه، وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِنْ وَجْه. وَالْمُعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِه، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لَوَازِمِ الْإِعَادَة وَلَوَازِمِ الْبَدَاءَة فَرْقٌ، فَعَجْبُ الذَّنَبِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَأَمَّا سَائِرُه فَيَسْتَحِيلُ، فَيُعَادُ مِنَ الْمَادَّة الَّتِي اسْتَحَالَ إِلَيْهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ رَآه وَقَدْ صَارَ شَيْخًا، عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ، مَعَ أَنَّهُ دَائِمًا فِي تَحَلُّلٍ وَاسْتِحَالَة. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتُ، فَمَنْ رَأَى شَجَرَة وَهِيَ صَغِيرَة، ثُمَّ رَآهَا كَبِيرَة، قَالَ: هَذِهِ تِلْكَ. وَلَيْسَتْ صِفَة تِلْكَ النَّشْأَة الثَّانِيَة مُمَاثِلَة لِصِفَة هَذِهِ النَّشْأَة، حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَة، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْجَنَّة إِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَة آدَمَ، طُولُه سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِي: أَنَّ عَرْضَه سَبْعَة أَذْرُعٍ. وَتِلْكَ نَشْأَة بَاقِيَة غَيْرُ مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ، وَهَذِهِ النَّشْأَة فَانِيَة مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ." انتهى.
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح" (ص247): "فإذا كان يوم القيامة أخرج الله سبحانه وتعالى الناس كلهم من الأرض، وأنشأهم للبقاء لا للموت." انتهى.
ثانيا:
بيان المراد بالضوء في حديث الوارد في السؤال
وأما الحديث الذي سبب الإشكال عند السائل، فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/357)، من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل، وفيه قال: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيَخْرُجُ، فَيَسِيرُ فِي مُلْكِهِ، فَمَا تَبْقَى خَيْمَةٌ مِنْ خِيَمِ الْجَنَّةِ إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ، فَيَسْتَبْشِرُونَ بِرِيحِهِ، فَيَقُولُونَ: وَاهًا لِهَذَا الرِّيحِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ، قَدْ خَرَجَ يَسِيرُ فِي مُلْكِهِ .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحح الترغيب والترهيب" (3704).
إلا أنه لا يدل بحال على أن الله سيخلق أهل الجنة من النور، ولا تعرض فيه للنشأة الثانية وصفتها؛ وإنما يخلقهم سبحانه من التراب، لكن النشأة الثانية مغايرة للنشأة الأولى، فإن الله تعالى يزيد في خلق أهل الجنة من القوة والحسن والجمال، ويكسوهم نورا بفضل أعمالهم سبحانه، ثم هم لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يصيبهم الأذى الذي يصيب أهل الدنيا.
فقد أخرج البخاري في "صحيحه" (3327)، ومسلم في "صحيحه" (2834)، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ الأَنْجُوجُ، عُودُ الطِّيبِ وَأَزْوَاجُهُمُ الحُورُ العِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ .
قال ابن القيم في "تحفة المودود" (ص208):" فإنهم يبعثون حفاة عراة بهما، ثم يكسون، ويُمد خَلقهم، ويزاد فيه بعد ذلك، يزاد في خلق أهل الجنة والنار، وإلا فوقت قيامهم من القبور يكونون على صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا، وعلى صفاتهم وهيئاتهم وأحوالهم، فيبعث كل عبد على ما مات عليه، ثم ينشئهم الله سبحانه كما يشاء" انتهى.
وخلاصة القول: أنَّ الله تعالى يخرج بني آدم عند البعث من الأرض، ومادة خلقهم هي التراب، وأما هذا النور الذي يكون في أهل الجنة فهو من فضل الله عليهم بفضل أعمالهم، فإن النشأة الآخرة وإن كانت مثل الأولى في أصل المادة، إلا أنها مغايرة لها في الوصف.
والله أعلم.
تعليق