الحمد لله.
من ارتد عن الإسلام وجب قتله مع القدرة؛ لما روى البخاري(6922) عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : "أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ).
وروى البخاري (7157)، ومسلم (1824) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟
قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ.
قَالَ معاذ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وفي هذا إخبار بأن قتل المرتد قضاء الله، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقتل المرتد مجمع عليه.
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: " وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَمُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَخَالِدٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ , فَكَانَ إجْمَاعًا " انتهى من "المغني"(9/16).
وما جاء في صلح الحديبية لا يعارض هذا.
روى مسلم (1784) عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: (اكْتُبْ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا بِاسْمِ اللهِ، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ بِاسْمِكَ اللهُمَّ، فَقَالَ: (اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ)، قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ)، فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا).
فليس في هذا أن من ارتد أبقى عليه المسلمون، ولا أنهم يسلمونه بأنفسهم إلى الكفار، وإنما هذا يفر بنفسه إلى مكة، فإن فر إلى الكفار، لم يكونوا ملزمين برده، بينما من آمن منهم، وفر إلينا ، رددناه إليهم، وهذا ما جعل بعض الصحابة يعترض، لما فيه من إسلام المسلم إلى الفتنة، ولم يعترضوا على أن الكفار إذا جاءهم المرتد لم يلزموا برده.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (6/ 150): " وأما إمساكهم من صار إليهم منا : فلا إشكال فيه؛ لأنه كافر مثلهم، وقد بينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (ومن ذهب منا إليهم فأبعده الله) " انتهى.
فمنشأ الاشتباه الذي حصل لك ، ولمن نقلت عنه الشبهة : ظنك أن المرتد سيعلن كفره، ثم يبقى في المدينة ظاهرا، مجاهرا بردته، ثم إنه يذهب إلى مكة، لا يعترض عليه أحد!
وهذا ظن فاسد، فليس في الصلح: عدم التعرض للمرتد، أو حماية المرتد، وإنما الذي فيه: أن المرتد إذا وصل مكة، فإن قريشا لا ترده.
وعليه ؛ فإذا قتله المسلمون فلم يجئ مكة، فهذا لا ينقض الصلح؛ لأن الصلح لم يتعرض لهذا أصلا.
ولهذا لم يستشكل الفقهاء هذا الحديث ولم يروه معارضا لأدلة قتل المرتد، ولا فهم الصحابة منه ولا غيرهم أن قتل المرتد غير محتم، وأن هناك مخرجا للإبقاء على حياته بإخراجه إلى بلد كافر معاهد!
فهذا كله وَهْمٌ بُنِيَ على وَهْمٍ، ولو كان هذا صحيحا لما صح الإجماع على قتله.
ثم أي مسلم يقول: إن المرتد يُبعد إلى بلد آخر؟
أليس في هذا نشر للكفر والفساد؟ إذ يتقوى الكافر بأهل الكفر، وربما شجعوه وشجعوا غيره على الكفر، وقالوا: من كفر أعطيناه الجنسية! ويبقى المسلمون عاجزين لا يملكون حتى حبسه على مقتضى هذا الفهم غير المستقيم.
نسأل الله أن يكفينا مضلات الفتن.
والله أعلم.
تعليق