الحمد لله.
أولًا :
ينبغي أخذ العلم من العلماء الثقات
ينبغي على الإنسان أن يأخذ العلم عن أهله، ويجتهد في أخذ العلم عن ثقات أهله، فإن العلم دين كما قال العلماء، عن محمد بن سيرين، قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" انتهى من"صحيح مسلم" (1/14).
"وقال مالك لرجل: اطلب هذا الأمر من عند أهله، وقال مالك أيضا لسفيان بن عيينة: إنك امرؤ ذو هيئة وكِبَر، فانظر عمن تأخذ؟".
وقال مالك: "لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ عمن سواهم، لا يؤخذ عن معلن بالسفه، ولا عمن جرب عليه الكذب، ولا عن صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا عن شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به"، انتهى من"الآداب الشرعية والمنح المرعية" (2/ 146).
ثانيًا :
معنى: (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً)
قوله تعالى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء/1.
معنى (بث) أي: نشر وأظهر وفرق .
"تفسير الثعلبي"(10/10).
قال "ابن كثير" في "تفسيره" (2/206) : "وَقَوْلُهُ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً أَيْ: وذَرَأ مِنْهُمَا، أَيْ: مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، ونَشَرهم فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعَادُ وَالْمَحْشَرُ"، انتهى .
وأمَّا قول "الرازي" في "تفسيره" (9/478) : "لم يقل: وبث منهما الرجال والنساء؛ لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله: وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً".
فمقصوده : أن الله تعالى قال (رجالًا ونساءً) بالتنكير لكي يُفهم من الآية أن الأصل فقط كان من آدم وحواء، وإلا فإن انتشار الذرية بعد ذلك حصل بالتوالد.
قال الزمخشري : "والمعنى: خَلَقَكم مِن نفسِ آدم؛ لأنهم من جُملة الجنسِ المفرَّع منه، وخَلَقَ منها أُمَّكم حوّاء (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) غيركم من الأمم الفائتة للحَصْر" .
قال "الطيبي" في "حاشية الطيبي على الكشاف" (4/404):
"وقوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً): بيان لغاية أمره، مما يتعلق بالتوالد والتناسل، وما يتوسط بينهما من سائر الأحوال الغريبة، فهو مقصود مراد؛ لأن الإضمار في أمثال هذه المقامات مؤذن بأن التقرير غير واف بالمقصود.
وفي تخصيص الذكر بقوله: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) دون اسمه عليه السلام إشعار بتصوير الأطوار والأحوال.
قوله: (لأنهم من جملة الجنس المفرع منه) أي: من آدم؛ فصح أن يقال: خلقكم من نفس آدم، وإن وجدت الوسائط"، انتهى .
وقال "زاده" في حاشيته على "البيضاوي" :
"المراد بخلقهم منه : جعله أصلا يتفرع منه الفروع ، ويتشعب منه الشعب"، انتهى من"حاشية محي الدين زاده على تفسير القاضي البيضاوي" (3/245).
ثالثًا :
الرد على شبهة أن آدم له زوجتان
صرح القرآن المجيد بخلق الناس من آدم وحواء خاصة ، قال تعالى : وقال الله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ الحجرات/13.
وهذا خطاب الله للناس جميعا ، أنه خلقهم من "ذكر وأنثى" ، يعني : من شخصين اثنين فقط ، لا ثالث لهما .
وبين القرآن الكريم أن خلق آدم عليه السلام كان من طين ، لكن نسله حصل بالتناسل من الماء (المني).
قال الإمام ابن منده رحمه الله: " ذكر الآيات الدالة على وحدانية الله، عز وجل، وأنه خالق الخلق ومنشيها من تراب آدم، عليه السلام، ثم من نطفة ولده وخلق منها زوجها حواء قال الله عز وجل منبها عباده على وحدانيته وربوبيته وبديع صنعته لخلقه:
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم: 21] ثم أخبر عن كيفية بدء خلق آدم عليه السلام، من تراب، فجبله طينا لازبا، ثم جعله حمأ مسنونا، ثم جعله صلصالا كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه، فقال عز وجل: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [السجدة: 7] إلى قوله تعالى: والأفئدة قليلا ما تشكرون [المؤمنون: 78] ثم أخبر عز وجل بتفرده بخلق الأشياء كلها من غير معين، فقال، عز وجل: ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وقال تعالى: أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون [الزخرف: 19]" انتهى من "التوحيد" لابن منده (1/207).
ويكفي في بيان ضلالة هذا الضال القائل بهواه ، وظنه الفاسد: أن يعلم أن الله جل جلاله إنما خاطب الله آدم في كل موضع ذكر معه "زوجته"، ولم يقل مرة واحدة : وزوجتيك، ولا ذكر لذلك أثرا. قال الله تعالى: وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍالبقرة/34-35
وقال تعالى أيضا: وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ الأعراف/19-25
وبعد أن انتهى من قصة آدم وزجته، وما كان من أمرهما مع وسوسة إبليس، وهما شخصان اثنان، لا ثالث لهما ، ذكر أمر ذريتهما ، وبنيهما بعد ذلك ، فقال :
يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأعراف/26-27.
فانظر كيف جاء النداء لبني آدم ، كلهم ، وهم الجنس البشري الذي طلب بالتكاليف الشرعية ، وحذرهم من اتباع الشيطان، وغوايته، وخوفهم أن يفتنهم ، كما فتن ( أبويهم ) ، وهما آدم وحواء ، بلا إشكال.
والحاصل:
أن الآية تقرر ما هو معلوم من الدين بالضرورة: أن آدم وحواء هما الأبوان للجنس البشري كله ، فآدم أبوه، وحواء أمه، وأنهما ولدا الرجال والنساء، إما مباشرة في الذرية الأولين، وإما بطريق التوالد للنسل الحادث من ذريتهما بعد ذلك.
وليس في هذه الآية ما يدل على أن المراد بالرجال والنساء: الأبناء المباشرون من صلب آدم ، بل فيها أن الله نشر من ذريتهما رجالا كثيرا ونساء، وسواء كان ذلك عن طريق الولادة المباشرة، أو النسل الكائن من الذرية؛ فالجميع إنما حصل منهما.
وأما ما يذكره هذا المحرف الدجال، من أن آدم عليه السلام كانت له زوجة أخرى، ومراده أنه قد حصل من ذريتها رجال آخرون ونساء، سوى من كان من ذرية حواء؛ فهو كذب محض، ودجل، وضلالة لم يقل أحد ممن يرجع إليه في علم ولا دين ؛ وكفى بهذا ضلالة .
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: " ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله." انتهى من "الرسالة" (475).
فاحذري يا أمة الله تلك الضلالات وأمثالها، وشدي يديك على دينك، لا تكوني تبعا لكل ناعق، ولا يستهوينك كل بارق، أو يستخفنك كل طارق؛ ودينك أعز من ذلك كله.
والله أعلم.
تعليق