الحمد لله.
أولًا :
قال تعالى في قصة يوسف وامرأة العزيز: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ سورة/ يوسف.
قال ابن كثير في "تفسيره" (4/ 383): "يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب، يوسف هارب، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت، فلحقته في أثناء ذلك، فأمسكت بقميصه من ورائه فقدته قدًّا فظيعًا، يقال: إنه سقط عنه، واستمر يوسف هاربا ذاهبا، وهي في إثره، فألفيا سيدها -وهو زوجها -عند الباب، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا أي: فاحشة، إلا أن يسجن أي: يحبس، أو عذاب أليم أي: يضرب ضربا شديدا موجعا. فعند ذلك انتصر يوسف، عليه السلام، بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، وقال بارا صادقا هي راودتني عن نفسي، وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه.
وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل أي: من قدامه، فصدقت أي: في قولها إنه أرادها على نفسها، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه، دفعته في صدره، فقدت قميصه، فيصح ما قالت: وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، وذلك يكون، كما وقع: لما هرب منها، وتطلبته، أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها، فقدت قميصه من ورائه"، انتهى .
وقال السعدي: "ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة، ذهب ليهرب عنها، ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص، ويهرب من الفتنة، فبادرت إليه، وتعلقت بثوبه، فشقت قميصه، فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال، ألفيا سيدها، أي: زوجها لدى الباب، فرأى أمرا شق عليه، فبادرت إلى الكذب؛ أن المراودة قد كانت من يوسف، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ولم تقل "من فعل بأهلك سوءا"؛ تبرئة لها، وتبرئة له أيضا من الفعل؛ وإنما النزاع عند الإرادة أو المراودة إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أي: أو يعذب عذابا أليما.
فبرأ نفسه مما رمته به، وقال: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما، ولم يُعلم أيهما. ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه، قد يعلمها العباد، وقد لا يعلمونها، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام، فانبعث شاهد من أهل بيتها، يشهد بقرينةٍ؛ مَن وُجدت معه، فهو الصادق، فقال:
إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها، المراود لها المعالج، وأنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا الجانب.
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب.
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف بذلك صدق يوسف وبراءته، وأنها هي الكاذبة" انتهى من "تفسير السعدي" (ص/396).
ثانيًا :
اختلف العلماء في الشاهد :
1- فذهب بعضهم إلى أنه كان صبيًّا تكلم في المهد، وعلى هذا فهي كرامة ليوسف صلوات الله وسلامه عليه، وإظهار لبراءته .
2- وذهب بعضهم أنه كان رجلًا كبيرًا ذا لحية، وقيل: كان ابن عم المرأة .
3- وقيل: لم يكن من الإنس.
4- وقيل: الشاهد هو القميص الذي قطع، وهو قول ضعيف .
انظر : "تفسير الطبري" (13/ 105-111).
وانظر الجواب رقم: (202339).
قال ابن كثير في "التفسير" : "وقد اختلفوا في هذا الشاهد: هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف:
فقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: وشهد شاهد من أهلها قال: ذو لحية.
وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق: إنه كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم، والسدي: كان ابن عمها.
وقال ابن عباس: كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: وشهد شاهد من أهلها قال: كان صبيا في المهد.
وكذا روي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم: أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد -هو ابن سلمة -أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكلم أربعة وهم صغار"، فذكر فيهم شاهد يوسف .
ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس؛ أنه قال: تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا. وهذا قول غريب" ، انتهى من تفسير ابن كثير"(4/ 383-384).
ثالثًا :
وأما وجه تسمية قوله شهادة مع أنَّه لم يكن حاضرًا ، فيقال في جوابه:
إن كان صغيرًا، فالأمر واضح ، وهو : كونها كرامة ليوسف عليه السلام ، فلا مانع من أن يشهد بذلك، على غير الوجه المعتاد في الشهادات، وإنما على وجه الكرامة والمعجزة ليوسف عليه السلام.
وإن كان كبيرًا ، فلم يكن ذلك شهادة بالمعنى الاصطلاحي المعروف لها ؛ وإنما كان نوعا من الحكم بالقرينة ودلالة الحال؛ ولما كان ذلك الحكم يؤول إلى إظهار الحق ؛ جُعِل بمنزلة الشهادة.
وقيل : كان يظن صدقها، فأراد أن يقيم دليلا على صدقها، فوقع عكس ذلك.
وقال مجاهد: "ومعنى شهد شاهد: حكم حاكم من أهلها".
انظر: "تفسير الثعلبي" (14/580).
قال الواحدي في "التفسير البسيط" (12/ 81-82) : "وعلى هذا فمعنى قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ أي أَعلم مُعْلِم، وبيَّن مُبيِّن، وقال قائل. غير أن هذا القول والإعلام، لما كان كالبينة؛ استُعمل فيه لفظ الشهادة. قال مجاهد: شهد شاهد: حكم حاكم.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشهادة لا يصح تعليقها بالشرط؛ ولأنه لو كانت هذه شهادة معهودة لقيل: وشهد مشاهد من أهلها: أنه إن كان قميصه ، كما يقال: إن فلانًا فعل كذا.
ولفظ الشهادة يستعمل في التبيين، كقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] أي: أعلم وبيّن، وقال تعالى: شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: 17] يريد بينوا ذلك لعنادهم الحق، وإن لم يكن منهم اعتراف بالكفر...
قال الكلبي: الشاهد ابن عم المرأة، وكان رجلاً حكيمًا، كان مع زوجها، فقال قد سمعنا الاشتداد والجلبة من رواء الباب، وشق القميص، فلا ندري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه، فهو صادق"، انتهى.
قال ابن عاشور: "وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته، وهو الذي شهد وكان فطنا عارفا بوجوه الدلالة.
وسمي قوله شهادة لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف- عليه السلام- على سيدته، أو دحضه.
وهذا من القضاء بالقرينة البينة، لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه، لكان ذلك في حال استقباله له إياها، فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قُبل. وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض.
ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص، نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص، تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه؛ ولولا ذلك ما خطر ببال الشاهد أن تمزيقا وقع، وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص.
والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلا على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف- عليه السلام-" انتهى من"التحرير والتنوير"(12/257).
والحاصل:
أن قول الشاهد المذكور: إنما يعد شهادة، لو أنه قال: نعم، هو فعل بها كذا، أو هي فعلت به. أو قال: لم يفعل، أو: هي لم تفعل ... ؛ فيكون خبرا منه عن الواقعة، فيحتاج حينئذ إلى السؤال: كيف يذكر خبرا، أو يشهد بشيء لم يره؟!
لكن شيئا من ذلك لم يكن؛ وإنما هو دلهم على القرينة التي يمكن أن يستدلوا بها على صدق القائل من الطرفين؛ وهذا لا يحتاج إلى أن يكون حاضرا، ولا شاهدا لما جرى؛ فقط، يحتاج إلى فطنة، وحسن بديهة في مثل تلك الحال.
والله أعلم.
تعليق