الحمد لله.
أولًا:
للأمثال في القرآن الكريم فائدة عظيمة، وبلاغة جليلة، قال الله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 25]، وقال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35]، وقال: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43].
قال "الماوردي": "وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها؛ لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب اللَّه الأمثال في كتابه العزيز، وجعلها من دلائل رسله، وأوضح بها الحجة على خلقه، لأنها في العقول معقولة، وفي القلوب مقبولة".
انظر: "أدب الدنيا والدين" (275).
ويقول "الشيخ السعدي" : "في ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور:
التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل، كنسبة المحسوس إلى الحس.
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر، وإبطال أمر".
"تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص34).
ويقول الشيخ "محمد الخضر حسين" «يمكننا أن نقول: أمثال القرآن: ما يضربه الله للناس من أقوال تتضمن ما فيه غرابة؛ من تشبيه، أو استعارة، أو قصة، ويدخل في هذا كل ما سماه القرآن قبل ذلك أو بعده: مثلاً، بل ويعد في أمثال القرآن كل ما اشتمل على تمثيل حال شيء بحال آخر؛ كقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور: 39 - 40]"، انتهى.
"موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين" (2/ 1/ 37).
ثم قال: "ومن بديع أسلوب القرآن في ضرب المثل: أن يسوق الجمل مستعملاً لها في معانيها الحقيقية، قاصداً بها غرضاً خاصاً؛ كالاحتجاج على بعض العقائد، وبعد أن يفيد بها هذا الغرض، يعود إلى جعلها مثلاً يرمي إلى غرض من الأغراض التي تُضرب لها الأمثال.
فانظروا إن شئتم إلى قوله تعالى: وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [الرعد: 16، 17]؛ فقوله تعالى: أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ … إلى قوله: زَبَدٌ مِثْلُهُ ظاهر في معنى تقرير حجة على كمال قدرته تعالى، وبعد أن أقام به حجة على المشركين، جعل هذا القول نفسَه مثلًا يستبين به الحق والباطل، فقال تعالى: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والباطِلَ، وهذا من الإيجاز الذي بلغ به القرآن أعلى طبقات البلاغة".
"موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين" (2/ 1/ 41).
ثانياً:
أمثال القرآن على أقسام:
النّوع الأوّل:
أمثال يصرّح فيها بلفظ (المثل) أو ما يدلّ على التّشبيه وتسمّى (الأمثال المصرّحة).
فمثال التّصريح بلفظ المثل قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ الرّعد/17.
ومثال التّصريح بالتّشبيه، قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً النّور/39.
النّوع الثّاني:
أمثال لا يصرّح فيها بلفظ التّمثيل، ولكنّها تدلّ على معان تمثيليّة بإيجاز، وهي (الأمثال الكامنة)، كقوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً الحجرات/12.
وتشبيهات القرآن جميعها أمثال مضروبة لفهم مراد الله عز وجلّ بخطابه لعباده، كما قال: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إبراهيم/25.
النّوع الثّالث:
قصص القرآن.
قصّ الله عز وجلّ علينا من أنباء الأوّلين ما جعله أعظم مثل للاعتبار والقياس، فقال: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 34 النّور/34.
فهذا المثل هو قصّة آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وبني إسرائيل، وغير ذلك، فالمخاطبون بهذا القرآن هم الممثَّلون [أي: الممثل لهم]، وأصحاب تلك القصص هم الممثّل بهم، والمثل: شأنهم، وما كانوا عليه، وما صاروا إليه.
وهذا المثل قضيّة قياسيّة، أصلها تلك الأمم الخالية، وفرعها هذه الأمّة ومن بلغه هذا القرآن، والمعنى الجامع لإلحاق الفرع بالأصل: إمّا استقامة تلحق بمن أنعم الله عليهم، وإمّا انحراف يلحق بمصير المغضوب عليهم والضّالّين.
وهذا النّوع من أعجب الأمثال، وما هو بالأساطير ولا الخيالات، بل هو كما قال الله: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ آل عمران/62، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يوسف/3، لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يوسف/111.
انظر: "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" (ص394 - 397)، بتصرف.
والحاصل:
أن أمثال القرآن، هي لون من طرائقه البديعة، وأدبه البالغ في إيصال المعاني في أقرب صورة، وألطفها، وأبلغها دلالة على المراد.
ولأمثال القرآن فوائد كثيرة، يمكن مراجعتها في جواب السؤال رقم: (22298).
وانظر للتوسع في معنى المثل، وفوائده، وما إلى ذلك:
"الأمثال في القرآن الكريم : دراسة نظرية، د. خالد بن عثمان السبت، مجلة تبيان للدراسات القرآنية، العدد (25)، عام (2016)، (ص 21 - 89).
والله أعلم
تعليق