الحمد لله.
أولاً:
هل كان فرعون يعبد آلهة باطلة؟
قال الله تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) الأعراف/127.
فقد ذكر كثير من العلماء أن فرعون لعنه الله كان يعبد آلهة باطلة، وإن اختلفوا في تعيينها، ومما ذكروه:
1- "أَنَّهُ كَانَ لَهُ بَقَرَةٌ يعَبُدُهَا".
"تفسير الطبري" (10/366).
2- أنَّه كَانَ لِفِرْعَوْنَ جُمَانَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي نَحْرِهِ يَعْبُدُهَا وَيَسْجُدُ لَهَا.
"تفسير الطبري" (10/367).
3- أنَّه كَانَ يَعْبُدُ إِلَهًا فِي السِّرِّ.
"تفسير الطبري" (10/367).
4- أنَّه كان يعبد الملائكة.
"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن آثار المعلمي" (3/705).
ثانيًا:
التوفيق بين قول فرعون: (ما علمت لكم من إله غيري) وبين كون فرعون يعبد آلهة
أما قول فرعون لعنه الله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ القصص/38.
فللعلماء في توجيهه أقوال، منها:
1- أنه مخصوص بهم، لأنه قال لهم: (ما علمت لكم)، ولم يقل لهم: (ما علمت إلهًا غيري).
قال "أبو حفص النسفي" : "وقوله تعالى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]:، و: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، هو على التخصيص؛ لأنه لم يقل: ما علمتُ من إلهٍ غيري، و: أنا الربُّ الأعلى"، انتهى.
"التيسير في التفسير" (6/474).
2- أنَّه شرع لقومه أن يعبدوه فقط، وهو يعبد الملائكة، وهذا قريب من القول الأول.
ويقول العلامة المحقق الشيخ الطاهر ابن عاشور، رحمه الله : " وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَوَزْنُهُ أَفْعِلَةٌ، وَكَانَ الْقِبْطُ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً مُتَنَوِّعَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَصَوَّرُوا لَهَا صُوَرًا عَدِيدَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ، أَشْهَرُهَا (فِتَاحُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ وَكَانَ يُعْبَدُ بِمَدِينَةِ (مَنْفِيسَ) ، وَمِنْهَا (رَعْ) وَهُوَ الشَّمْسُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ آلِهَةٌ بِاعْتِبَارِ أَوْقَاتِ شُعَاعِ الشَّمْس، وَمِنْهَا (ازيريس) وَ (إِزِيسُ) وَ (هُورُوسُ) وَهَذَا عِنْدَهُمْ ثَالُوثٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَابْنٍ، وَمِنْهَا (تُوتْ) وَهُوَ الْقَمَرُ وَكَانَ عِنْدَهُمْ رَبَّ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهَا (أَمُونْ رَعْ) فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أَصْلُ إِضْلَالِ عُقُولِهِمْ.
وَكَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ فَرْعِيَّةٌ صُغْرَى عَدِيدَةٌ مِثْلَ الْعِجْلِ (إِيبِيسَ) وَمِثْلَ الْجِعْرَانِ وَهُوَ الْجُعَلُ.
وَكَانَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ فِرْعَوْنُ إِلَى بُنُوَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا ابْنَ الْآلِهَةِ، وَقَدْ حَلَّتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى نَحْوِ عَقِيدَةِ الْحُلُولِ.
فَفِرْعَوْنُ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلدِّينِ، وَكَانَ يُعَدُّ إِلَهَ مِصْرَ، وَكَانَت طَاعَته طَاعَتُهُ لِلْآلِهَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات: 24] (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [الْقَصَص: 38]"، انتهى من"التحرير والتنوير" (9/ 58-59).
يقول الشيخ "المعلمي" : "وأما ما قدَّمناه من أن فرعون شرع لقومه أنهم يعبدونه، وهو يعبد الملائكة، فالبرهان عليه قول الله عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127].
نصَّت الآية على أنه كان له آلهةٌ، وأما هم فقد قال لهم: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقراءة مَن قرأ: (وإلاهتك) ــ إن صحَّت ــ لا تدفع ما تقدَّم، بل هو معنىً آخر لا يدفع معنى القراءة المجمع عليها.
ومَن زعم أن المراد بآلهته: أصنامٌ على صورته، كان أَمر قومَه بعبادتها، فقد أبعد؛ لأنها لا تكون آلهته، بل تكون آلهةً لقومه، وذلك مخالفٌ لقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي.
فقولهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ من باب الترقِّي، أي: يذر أن يعبدك، بل ويذر أن يعبد معبوداتك، ويترقَّى إلى عبادة معبود معبوداتك، فهو يترفَّع أن يعبدك، بل ويترفَّع أن يساويك، ولا يقنع إلا بمساواة آلهتك.
والحاصل: أن فرعون أقام نفسه مقام الأصنام ــ كما مرَّ عن الملل والنحل ــ، فكما أن أهل الأصنام يعبدونها تقرُّبًا إلى الملائكة، بدون أن يثبتوا لها قدرةً تنافي كونها جمادًا، فكذا فرعون شرع لقومه أن يعبدوه تقرُّبًا إلى الملائكة، بدون أن يثبت لنفسه، أو يثبتوا له قدرةً تزيد على كونه إنسانًا.
وفي (فهرست) ابن النديم، عند ذكر ديانات أهل الهند: ومنهم أهل ملَّةٍ يُقال لها: الراجمرتيَّة، وهم شيعة الملوك، ومن سننهم في دينهم معونة الملوك، قالوا: الله الخالق تبارك وتعالى ملَّكهم، وإن قُتِلنا في طاعتهم، مضينا إلى الجنَّة.
وفيها في مذاهب أهل الصين، قال: وعامَّتهم يعبدون الملِك، ويعظِّمون صورته، ولها بيتٌ عظيمٌ في مدينة بغران.
أقول: قد اشتهر قريبٌ من هذا في رعاع الشام بالنسبة إلى خلفاء بني أميَّة، كانوا يزعمون أن الخليفة لا يحاسَب ولا يعاقَب، وأنَّ طاعته فريضةٌ على الناس وإن أمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ"، انتهى.
"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله - ضمن آثار المعلمي" (3/ 705-707).
ولـ"شيخ الإسلام ابن تيمية" توجيه لطيف لمعنى إشراك فرعون، يقول في بيانه: " «وإنمَا يقَال: إن المسَتكبر لا بد أن يكون مشركًا، لأن الإنسان حارثٌ همّامٌ، فلا بدَّ له من حَرْث هو عملُه وحركتُه، ولا بدّ لذلك من همّ، هو قصدُه ونيَّته وحبه، فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصدُه وإرادتُه، فيُسلم وجهَه لله؛ فلابدَّ أن يكون له مقصودٌ آخر ينتهي إليه قصدُه، وذاكَ هو إلهه الذي أشرك.
ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض، وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون، اتخذوه إلهًا وربًّا، كما قال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وقال لهم (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).
وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ). قيل: كان له آلهةٌ يعبدها سرًّا.
وقد وصفهم جميعًا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)). وقال قبل هذا: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ الآية، وقد ذكر الله قول يوسف: السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ الآية. وهذا إخبارٌ عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهةٍ يدعونها من دون الله.
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية، وهذا يبين أن جميع الرسل بُعِثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) الآيات، يُخبر تعالى فيها عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة.
ولو لم يكن المستكبر يعبد غيرَ الله، فإنه يعبد نفسَه ولا بدَّ، فيكون مختالاً فخورًا متكبرًا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره"، انتهى.
"جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم" (6/ 226-228).
فالحاصل: أن فرعون لعنه الله استخف قومه، وزعم أنه إلههم الأعلى، أخزاه الله، وكان مشركًا يعبد آلهة أخرى باطلة.
والله أعلم
تعليق