الحمد لله.
أولا:
إذا مات المسلم ولا وارث له، من صاحب فرض أو عصبة، أو ذي رحم مسلم، فإن ماله يكون لبيت المال المسلمين، يصرف في المصالح العامة كالمساجد والمدارس والمستشفيات ورصف الطرق ونحو ذلك.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (11/226): "اختلف الفقهاء في التركة التي لا وارث لها، أو لها وارث لا يرثها جميعها، فمن قال من الفقهاء بالرد [أي على ذوي الأرحام إن وجدوا] قال: لا تؤول التركة إلى بيت المال ما دام لها وارث. ومن لا يرى الرد من الفقهاء قال: إن بيت المال يرث جميع التركة، أو ما بقي بعد أصحاب الفروض.
وإذا آلت التركة إلى بيت المال، كانت على سبيل الفيء لا الإرث عند الحنفية والحنابلة.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن حق بيت المال هنا هو على سبيل الميراث، أي على سبيل العصوبة" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وبيت المال الذي يتكلم عنه الفقهاء هو الموضع الذي يجمع فيه المال، الذي تتولى إدارته الدولة ويمول من عدة أشياء، منها خمس الخمس في الغنيمة، وهو الذي يكون لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الأموال المجهول صاحبها، ومنها تركة من لا وارث له، ومصادر بيت المال تكون في مصالح المسلمين عموماً" انتهى من "الشرح الممتع" (10/388).
ولا يحل لأقاربه الكفار أن يرثوه؛ لما روى البخاري (6764)، ومسلم (1614) عن أسامة بن زيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم , ولا يتزوج الكافر المسلمة " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (3/130).
ثانيا:
ليس لك أن تأخذ من ماله على سبيل الإرث، في قول جمهور الفقهاء؛ لعدم ما يوجب الإرث، لكن إن كنت فقيرا، فلك أن تأخذ منه، كما يأخذ الفقراء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن من أسلم على يده شخص، ومات ولم يترك وارثا: فإنه يرثه.
وإليه ذهب إسحاق بن راهوية، وأحمد في رواية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ومال إليه الشيخ ابن عثيمين.
واحتجوا بما روى أحمد (16944)، وأبو داود (2918)، والترمذي (2112)، وابن ماجه (2752) عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ الرَّجُلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟
قَالَ: (هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ).
والحديث مختلف فيه، وعلقه البخاري بصيغة التمريض في كتاب الفرائض: باب إذا أسلم على يديه، فقال (8/155): " ويُذكر عن تميم الداري، رفعه، قال: ( هو أولى الناسِ بمحياه ومماته ). واختلفوا في صحة الخبر". انتهى.
وقد صححه أبو زرعة الدمشقي والحاكم ويعقوب بن سفيان، والألباني في صحيح أبي داود.
وضعفه الشافعي وأحمد والبخاري والترمذي، وشعيب في تحقيق المسند.
قال شعيب: "وإنما ضعفه بعضهم من جهة متنه، فقد قال الحافظ في "الفتح" (12/47): وجزم (يعني البخاري) في "التاريخ" بأنه لا يصح لمعارضة حديث: "إنما الولاء لمن أعتق"، ويؤخذ منه أنه لو صح سنده لما قاوم هذا الحديث، وعلى التنزل فتُرُدِّدَ في الجمع، هل يُخَصُّ عمومُ الحديث المتفق على صحته بهذا، فيُسْتثنى منه من أسلم؟ أو تُؤول الأولويةُ في قوله: "أولى الناس": بمعنى النصرة والمعاونة وما أشبه ذلك، لا بالميراث، ويبقى الحديث المتفق على صحته على عمومه؟ جنح الجمهور إلى الثاني، ورجحانه ظاهر.
قلنا: وبهذا التأويل تنتفي المعارضة، ويصح الحديث بإسناده المتصل، وقد صححه إضافة إلى من سلف ذكره ابنُ القيم في "تهذيب السنن" (4/186) انتهى من تحقيق المسند.
قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن:
"وَاَلَّذِينَ رَدُّوا هَذَا الْحَدِيث مِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ لِضَعْفِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى الْمِيرَاث، بَلْ لَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ: هُوَ أَحَقّ بِهِ، يُوَالِيه وَيَنْصُرهُ، وَيَبَرّهُ وَيَصِلهُ، وَيَرْعَى ذِمَامه، وَيُغَسِّلهُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَدْفِنهُ؛ فَهَذِهِ أَوْلَوِيَّته بِهِ، لَا أَنَّهَا أَوْلَوِيَّته بِمِيرَاثِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيل.
وَقَالَ بِهَذَا الْحَدِيث آخَرُونَ؛ مِنْهُمْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَد بْن حَنْبَل فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَطَاوُسٌ وَرَبِيعَة وَاللَّيْث بْن سَعْد، وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز .
وَفِيهَا مَذْهَب ثَالِث: أَنَّهُ إِنْ عَقَلَ عَنْهُ: وَرِثَهُ. وَإِنْ لَمْ يَعْقِل عَنْهُ: لَمْ يَرِثهُ. وَهُوَ مَذْهَب سَعْد بْن الْمُسَيِّب.
وَفِيهَا مَذْهَب رَابِع: أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَالَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرِثهُ، وَيَعْقِل عَنْهُ . وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّل عَنْهُ إِلَى غَيْره، مَا لَمْ يَعْقِل عَنْهُ إِلَى غَيْره، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّل عَنْهُ إِلَى غَيْره. وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد.
وَفِيهَا مَذْهَب خَامِس: أَنَّ هَذَا الْحُكْم ثَابِت فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْحَرْب، دُون أَهْل الذِّمَّة، وَهُوَ مَذْهَب يَحْيَى بْن سَعِيد.
فَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة مَعَ مُخَالَفَة هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام.
وَأَمَّا تَضْعِيف الْحَدِيث: فَقَدْ رُوِيَتْ لَهُ شَوَاهِد، مِنْهَا: حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ.
وَأَمَّا رَدّه بِجَعْفَرِ بْن الزُّبَيْر: فَقَدْ رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْن يُونُس حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بْن يَحْيَى الصَّدَفِيّ عَنْ الْقَاسِم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَحَدِيث تَمِيم - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رُتْبَة الصَّحِيح - فَلَا يَنْحَطّ عَنْ أَدْنَى دَرَجَات الْحَسَن، وَقَدْ عَضَّدَهُ الْمُرْسَل ، وَقَضَاء عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز بِرِوَايَةِ الْفَرَائِض، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَقْدِيم الْأَقَارِب عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلّ عَلَى عَدَم تَوْرِيثه إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَب، وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
وقال في "عون المعبود" (8/93): " (بِمَحْيَاهُ وَمَمَاته): أَيْ بِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاته وَمَمَاته.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ يَرَى تَوْرِيث الرَّجُل مِمَّنْ يُسْلِم عَلَى يَده مِنْ الْكُفَّار، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَاب الرَّأْي، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدْ زَادُوا فِي ذَلِكَ شَرْطًا، وَهُوَ أَنْ يُعَاقِدهُ وَيُوَالِيه. فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى يَده وَلَمْ يُعَاقِدهُ وَلَمْ يُوَالِهِ، فَلَا شَيْء لَهُ. وَقَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ كَقَوْلِ أَصْحَاب الرَّأْي إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُر الْمُوَالَاة .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَدَلَالَة الْحَدِيث مُبْهَمَة، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَرِثهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَوْلَى النَّاس بِمَحْيَاهُ وَمَمَاته، فَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي الْمِيرَاث، وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي رَعْي الذِّمَام وَالْإِيثَار وَالْبِرّ وَالصِّلَة، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْأُمُور.
وَقَدْ عَارَضَهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْوَلَاء لِمَنْ أَعْتَقَ)، وَقَالَ أَكْثَر الْفُقَهَاء لَا يَرِثهُ .
وَضَعَّفَ أَحْمَد بْن حَنْبَل حَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ هَذَا. وَقَالَ : عَبْد الْعَزِيز - رَاوِيه - لَيْسَ مِنْ أَهْل الْحِفْظ وَالْإِتْقَان اِنْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْبَرَكَات النَّسَفِيّ الْحَنَفِيّ : وَعَقْد الْمُوَالَاة مَشْرُوعَة، وَالْوِرَاثَة بِهَا ثَابِتَة عِنْد عَامَّة الصَّحَابَة، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّة . وَتَفْسِيره: إِذَا أَسْلَمَ رَجُل أَوْ اِمْرَأَة لَا وَارِث لَهُ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ وَلَا مُعْتَق، فَيَقُول الْآخَر: وَالَيْتُك عَلَى أَنْ تَعْقِلُنِي إِذَا جَنَيْت، وَتَرِث مِنِّي إِذَا مُتّ ، وَيَقُول الْآخَر قَبِلْت؛ اِنْعَقَدَ ذَلِكَ، وَيَرِث الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَل اِنْتَهَى".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تسهيل الفرائض" ص24 :
وأسباب الإرث ثلاث: نكاح، ونسب، وولاء...
الفرع الرابع: ليس للميراث سبب غير هذه الأسباب الثلاثة عند جمهور العلماء، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية عند عدم الأسباب المذكورة أسباباً أُخر، وهي: الموالاة، والمعاقدة، والإسلام على يديه، والالتقاط، وكونهما من أهل الديوان، وقال: هو رواية عن الإمام أحمد، قال: "ويرث المولى من أسفل، وهو العتيق، عند عدم الورثة، وقاله بعض العلماء" انتهى.
ولا حرج في الأخذ بهذا القول؛ لا سيما عند عدم وجود بيت المال، أو عدم انتظامه، أو عدم تمكن بيت المال من الوصول إلى المال.
والله أعلم.
تعليق