الحمد لله.
أولًا:
هناك فرق بين الوحدة التي هي شعور مؤلم.
وبين الوحدة بمعنى الانعزال، وعدم القدرة على تكوين العلاقات والانخراط فيها.
وبين القدرة على أن تكون وحيدًا؛ فهذا النمط من الوحدة: من معالم النضج النفسي، وفيها تكون وحدتك مصدر أمان ودعم، بقدر ما العلاقات مصدر أمان ودعم.
وبين الانطوائية، وهي تفضيل طبعي لفترات الوحدة، وغلبتها، مع القدرة على توفية الحد الأدنى من الانخراط الاجتماعي، والاستمتاع به وأداء حقه.
هذه أربع صور تسمى وحدة
الوحدة الأولى: شعور مُلِحّ يتمكن منك حتى وأنت وسط الناس ووسط علاقاتك.
والثانية: حالة معقدة من المشاعر والسلوكيات، تصل بك لأن تكون منعزلًا اجتماعيًا، وربما تصل للرهاب الاجتماعي، ولابد في علاجها من تشخيص سليم كامل، وعمل منتظم.
تمكن شعور الوحدة له آثار نفسية وإيمانية، وحتى جسدية، ولعله لأجل ذلك جاءت الأحاديث التي تحذر من الانفراد والوحدة؛ وهذا الإشكال يحتاج لعلاج، واستعانة بالله عز وجل.
ومن المهم تحليل أسباب هذا الشعور، فأحيانا يكون بسبب عدم وجود تقديرٍ كافٍ للذات، أو لوجود روابط عائلية ضعيفة، أو لمشاكل في التواصل مع المجتمع، أو لظروف مؤقتة، تشخيص الحالة وأسبابها مهم جدًا.
ومفتاح هذا: هو الوصف المكتوب للحالة، الوصف المكتوب يساعدكِ على فهم نفسك، وما يحدث لكِ.
العلاج، بعد جودة الفهم والتشخيص: يعتمد بدرجة أساسية على محاولة الاندماج والفاعلية، نفع الناس، مساعدة المحتاجين، بناء صداقات جديدة، القرب من الله، والتعلق بالوحي، وأنشطة الخير الجماعية النسائية، المناسبة لك ولظروفك، ولو أمكنك حضور جماعات النساء في المسجد وحلقات التحفيظ فهو خير وبركة لك، إن شاء الله.
ولا مانع من استشارة معالج نفسي؛ بل في الوحدة الثانية (الانعزالية) يكون هذا ضروريًا.
الوحدة الثالثة: من الممكن أن نسميها الاعتكاف، وهي الوحدة التي هي خيار، تفعله باقتدار لتعود لذاتك، وتستمد منها أمنك وصمودك، ولا تفقدك الوحدة قدراتك الاجتماعية.
هذه الوحدة الثالثة من أهم معالم الصحة النفسية.
فبعد وقوع تغيرات رئيسة في الظروف المحيطة بالمرء؛ قد تكون هناك حاجة إلى إعادة تقييم جوهرية لعلاقاته، ومحيطه الاجتماعي، بل ربما احتاج إلى إعادة تأمل ما هو أعمق من ذلك من القيم الكبرى في حياته.
ولهذا الاعتكاف آثار فاعلة جدًا في القدرة على معالجة تعقيدات العالم؛ ولأجلها كان الاعتكاف عبادة شرعية، وكانت فترات الحداد من أعظم منح الله للمبتلَيْن بالفقد.
أما الوحدة الرابعة، وهي التي يمكن أن نسميها الانطوائية، مع أنه اسم مظلوم، فهي حالة أعمق تعد من جملة الطباع التي قد يجبل عليها بعض الأشخاص، أو ترسخها فيهم عوامل تربوية وبيئية؛ فليست هذه حالة سلبية، ما دامت تجمع بين إيجابيات الاعتكاف، وتتخلص من سلبيات الوحدة الشعورية، والانعزال الاجتماعي، وهي في مقابل الانبساطية.
ثانيًا:
من الشرح السابق يتبين أن الموضوع أعمق من القدرة على تشخيص الناس ببساطة، والذي يهمنا هنا في هذا المقام هو السلبيات التي بدأت تحدث في العلاقة.
إذا كنت تشعرين بالتعاسة، أو حتى عدم الراحة في علاقتك بصديقتك؛ فالأمر ببساطة لن يخرج عما يلي:
(١) أخطاء سلوكية منك، أو منها، أو منكما معًا؛ باختلاف النسبة.
(٢) تفسيرات خاطئة لسلوكيات عادية تقع منها، وهي كذلك قد تتورط في التفسيرات الغلط.
وفي العلاقات، كما في الحياة كلها: سعادتك وتعاستك مسؤوليتك أنت، لا يمكنك انتظار السعادة من أحد، ولا يمكنك جعل سعادتك تنطلق عندما يدق جرس تغيير شخص آخر؛ الناس لا يتغيرون لأجل أحد، ويتغيرون ذاتيًا بصعوبة بالغة.
ومسؤوليتك تتحدد في ثلاثة أمور:
(١) مسؤوليتك في أداء الذي عليك، وفي التعامل مع أخطائك، بالاعتراف والمداواة.
(٢) مسؤوليتك في مراجعتك لتفسيراتك الغلط، التي تؤدي لتهمة الطرف الآخر بإساءة وهمية.
(٣) مسؤوليتك في إنهاء علاقة مسيئة، أو لا تستطيعين التعايش معها، متى كان الإنهاء هو القرار الصحيح.
سعادتك: مسؤوليتك أنتِ، والعلاقات الإنسانية كلها واحدة من مصادر الدعم والفرح، فإن عجزت علاقة منها عن أداء مهمتها؛ فهذا لا يعني أن الحياة كلها تصير تعسة، وإذا صارت الحياة كلها تعسة، أو غير مريحة، بسبب علاقة؛ فلا ينبغي أن نلوم إلا أنفسنا.
ثالثًا:
بناء على ما تقدم؛ فالصواب هو أن تصارحي صديقتك بكل ما يعتمل في نفسك، وتتركي لها فرصة لبيان رأيها، وذلك تفاديا لسوء الظن، فالله سبحانه وتعالى يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" الحجرات/12.
يقول ابن كثير _رحمه الله_ في تفسيره(4/212): "يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخوُّن للأهل والأقارب والناس، في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون اثمًا، فليُجتنب كثيرٌ منه احتياطًا".
ومهما كان رد فعلها أو تبريرها، ستشكرينها على التوضيح، من غير أن تناقشيها فيما قالت، وتطلبي منها أن تغير هذه التصرفات، أو أن تراعي شعورك.
بعد ذلك تراقبين الوضع؛ فإن استمرت هذه التصرفات، تبدئين في خفض مستوى علاقتك بها إلى الحد الأدنى الذي هو إلقاء السلام، والاطمئنان على الحال من حين لآخر، فصحتك النفسية أهم، وستمرين بفترة حزن مفهومة ومقبولة؛ ثم يزول كل ذلك.
ربما انتبهت هي إلى هذا، وربما حاولت استعادة العلاقة، أو حاولت الإساءة إليك!! ومتى وجدت راحتك، وصلاح بالك؛ فلتتجاهلي كل ذلك.
نحن وحدنا نقدر على أن نرسم حدود علاقاتنا، ويتم تجاوز هذه الحدود بالقدر الذي نسمح به فقط.
رابعًا:
الشيء الذي نود أن نذكره هنا في مسألة إنهاء العلاقات، هو أن إنهاء العلاقات يحتاج إلى درجة من الوعي بالذات، وبطبيعة العلاقات، ويحتاج إلى درجة من الحلم والأناة، وأن إنهاء العلاقات لا يعني المقاطعة، ولا يعني الهجر، ولا يعني البتر التام للعلاقة، لكن 90% من العلاقات تقريباً يكفي فيها تخفيض العلاقة إلى الحد الأدنى من التواصل، الذي هو إلقاء السلام عند اللقاء، عيادة المريض، التهنئة الهاتفية، التهنئة بالرسائل في الأعياد، 90% من العلاقات التي نريد أن ننهيها، يمكننا أن ننهيها بالحد الأدنى من العلاقة.
إن إنهاء العلاقات يكون في حالة العقل الرشيد، لا يكون في حالة العقل الانفعالي العاطفي، ولا في حالة العقل المنطقي والحسابات العقلية المحضة، وإنما يكون في حالة العقل الرشيد الذي يقوم بالموازنة بين الحسابات العقلية، وبين الجوانب العاطفية النفسية.
إنهاء العلاقات في حالة العقل الانفعالي العاطفي، سيؤدي إلى أثار كارثية، وأخطاء تحاسبين عليها، وإساءات لا تحبين أن تصدر منك، وقد يؤدي إلى إعادة العلاقة أيضا بعد ذلك في حالة انفعالية.
وعلى العكس؛ فإنهاء العلاقة في حالة العقل المنطقي، والحسابات العقلية المحضة: يقلل حضور الجانب الإنساني في العلاقات، وهذا يحدث لكثير من الناس الذين يبنون علاقاتهم، أو يهدمونها، بناءً على المصلحة الدنياوية فحسب.
نحن لا نقرر إنها العلاقة فقط بسبب أنها مسيئة؛ لكن، أيضا: بسبب أن ضررها أكثرُ من نفعها، حتى، ولو لم لن تكن مسيئة.
ومن الأمور المهمة: التهيؤ للعقبات التي ستصاحب إنهاء العلاقة (السيناريوهات الذهنية)، (ما الذي سيقوله الطرف الآخر عند انهائي العلاقة؟ ما الذي سيفعله؟)،والاحتياط لهذه الأشياء.
وهذا يقودنا إلى درس مهم جداً في حياتك الاجتماعية؛ وهو ألا تسارعي بالانفتاح على أي علاقة، كيفما كانت، ودائماً قدري أن هذه العلاقة قد تنقطع، وقد تنتهي، فهناك جزء من نفسك لابد أن يظل خاصا بكِ، ما دمت تخشين من عواقب إنهاء العلاقات.
قال الإمام ابن عبد البر، رحمه الله:
"أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته، ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة، في دينه أو دنياه.
فإن كان ذلك؛ فقد رخص له في مجانبته، وبعده، ورُبَّ صَرْمٍ جميل، خير من مخالطة مؤذية" انتهى، من "التمهيد" (6/127).
والله أعلم.
تعليق