الحمد لله.
أولًا:
تكرار القصة في القرآن من سمات القرآن الكريم؛ لأن "إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة"، كما يقول الزركشي.
"البرهان في علوم القرآن" (3/26).
وقد ذكرنا طرفًا من ذلك، في الأجوبة: (140060)، (82856).
وقد قال الإمام ابن جماعة: "ما سبب اختلاف الألفاظ وزيادة المعاني ونقصها في بعض قصص آدم دون بعض، وكذلك في غير ذلك من القصص، كقصة موسى مع فرعون، ونوح وهود وصالح مع قومهم، وشبه ذلك؟
جوابه:
أما اختلاف الألفاظ: فلأن المقصود المعاني، لأن الألفاظ الدالة عليها أولًا، لم تكن باللسان العربي، بل بألسنة المتخاطبين حالة وقوع ذلك المعنى، فلما أُدِّيت تلك المعاني إلى هذه الأمة، أُدِّيت بألفاظ عربية تدل على معانيها، مع اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى، فلا فرق بين أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، وبين لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في دلالتها على معنى واحد، وهو عدم السجود....
وأما زيادة المعاني ونقصها في بعض دون بعض: فلأن المعاني الواقعة في القصص فُرِّقت في إيرادها، فيذكر بعضها في مكان وبعض آخر في مكان آخر، ولذلك عدة فوائد ذكرتها في كتاب المقتنص في تكرار القصص"، انتهى من "كشف المعاني في المتشابه من المثاني": (173 - 174).
وقال الرازي الحنفي (ت: 666): "فإن قيل: كيف قال الله تعالى هنا، حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، إلى قوله تعالى: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟
قلنا الجواب عنه: أنهم إنما تكلموا بذاك بلغتهم، لا باللغة العربية، وحكى الله تعالى ذلك عنهم باللغة العربية مرارًا، لحكمة اقتضت التكرار والإعادة، نبينها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى، فمرة حكاه مطابقًا للفظهم في الترجمة، رعاية للفظ، وبعد ذلك حكاه بالمعنى، جريًا على عادة العرب في التفنن في الكلام، والمخالفة بين أساليبه؛ لئلا يُمَلَّ إذا تمحَّض تكراره"، انتهى، "أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل" (144).
ثانيًا:
قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56]، وقال: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82].
وقد قيل في سبب اختلاف ذلك:
أن سورة (الأعراف)، تأخر نزولها عن سورة النمل، فلما كانت "سورة النمل" هي النازلة أولا؛ ناسب ذلك أن يذكر فيها "آل لوط" باللفظ الصريح الظاهر، الدال عليهم.
ولما كانت سورة الأعراف قد نزلت آخرا، وقد تقدم ذكر "آل لوط، وعهد أمرهم؛ اكتفى بذكرهم بلفظ "الضمير" العائد على "آل لوط"، الذين قد سبق ذكرهم، والعلم بهم.
قال "أبو حيان": "ولما تأخر نزول هذه السورة، عن سورة النمل: أُضمر، ما فسره الظاهر في النمل"، انتهى، "البحر المحيط في التفسير" (5/ 101).
وقال "الفيروزآبادي": «قوله: أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ في هذه السُّورة، وفى النَّمل أخرجوا آلَ لُوطٍ: ما في هذه السُّورة كناية، فسَّرها ما في السورة التي بعدها، وهي النَّمل.
ويقال: نزلت النَّمل أَولًا، فصرَّح في الأُولى، وكَنَى في الثانية"، انتهى، "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" (1/ 215).
وقيل: إن سورة "النمل" فيها زيادة في معنى "التقريع" لقوم لوط على قبائحهم التي يأتونها، فناسب ذلك زيادة في "المبنى" بذكر لوط ومن معه من المخرجي، باسمهم الصريح: "آل لوط"، وما يوضحه من عموم الإخراج لكل من معه من "آله".
جاء في "ملاك التأويل": «والسؤال الرابع: ما وجه الاختلاف الوارد في جواب قوم لوط عليه السلام له في سورة الأعراف: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ، وفى سورة النمل: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ...
والجواب: أنه لما زيد في تعنيفهم في النمل، وتعريفهم بإتيانهم الفاحشة على علم بها، أو مع مشاهدة بعضهم بعضًا، وعدم استخفائهم بها، وذلك أقبح في المرتكب؛ فلما زيد في تعريفهم؛ زيد في تعليل الإخراج: التنصيصُ على الآل؛ لأن قوله: (آل لوط) أنصَّ في إخراج جميع مَن لِلوط عليه السلام من ذويه وأهله، من قوله: (أخرجوهم)؛ بزيادة التنصيص الأعم، بإزاء الأزيد في التقريع ... "، انتهى، "ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل: (1/ 208 - 209).
والله أعلم.
تعليق