الحمد لله.
أولاً :
التفصيل الذي ذكره السائل يحتوي على ثلاث مسائل وهي : المرابحة ، والتورق ، والتورق المصرفي الحديث .
وقد ذكرنا حكم " المرابحة " و " التورق " في جواب السؤال رقم ( 36410 ) .
أما " المرابحة " : ففي الجواب المحال عليه قلنا :
وشراء السلع ( سيارات أو غيرها ) عن طريق البنوك لا يجوز إلا عند توفر شرطين :
الأول : أن يمتلك البنك هذه السلعة قبل أن يبيعها فيشتري البنك السيارة مثلاً من المعرض لنفسه .
الثاني : أن يقبض البنك السيارة بنقلها من المعرض قبل بيعها على العميل.
وإذا خلت المعاملة من هذين الشرطين أو أحدهما كانت معاملة محرمة .
وأما " التورق " : ففي الجواب المحال عليه – أيضاً - ذكرنا فتوى علماء اللجنة الدائمة في تعريفه وإباحته ، وفيه :
"مسألة التورق هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل ، ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل ؛ من أجل أن تنتفع بثمنها ، وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء" انتهى .
ثانياً :
أما " التورق المصرفي " فهو معاملة حديثة احتالت فيه البنوك على التورق الشرعي المباح للتوصل إلى الإقراض بالربا ، وقد أصدر " المجمعُ الفقهي الإسلامي " في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة التي بدأت يوم السبت 11 رجب 1419 هـ الموافق 31 /10 / 1998 م قراراً بجوازِ بيعِ التورقِ ، وفيه :
"وبعد التداول والمناقشة ، والرجوع إلى الأدلة ، والقواعد الشرعية ، وكلام العلماء في هذه المسألة قرر المجلس ما يأتي :
أولاً : أن بيع التورُّق : هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل ، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع ، للحصول على النقد ( الورِق ) .
ثانياً : أن بيع التورق هذا جائز شرعاً ، وبه قال جمهور العلماء ، لأن الأصل في البيوع الإباحة ، لقول الله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) البقرة/275 ، ولم يظهر في هذا البيع رباً لا قصداً ولا صورة ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين ، أو زواج أو غيرهما .
ثالثاً : جواز هذا البيع مشروط ، بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول ، لا مباشرة ولا بالواسطة ، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة ، المحرم شرعاً ، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً .
رابعاً : إن المجلس : - وهو يقرر ذلك - يوصي المسلمين بالعمل بما شرعه الله سبحانه لعباده من القرض الحسن من طيب أموالهم ، طيبة به نفوسهم ، ابتغاء مرضاة الله ، لا يتبعه منّ ولا أذى وهو من أجلِّ أنواع الإنفاق في سبيل الله تعالى ، لما فيه من التعاون والتعاطف ، والتراحم بين المسلمين ، وتفريج كرباتهم ، وسد حاجاتهم ، وإنقاذهم من الإثقال بالديون ، والوقوع في المعاملات المحرمة ، وأن النصوص الشرعية في ثواب الإقراض الحسن ، والحث عليه كثيرة لا تخفى ، كما يتعين على المستقرض التحلي بالوفاء ، وحسن القضاء وعدم المماطلة" انتهى .
ثم صدر قرارٌ جديدٌ من " المجمعِ الفقهي الإسلامي " نفسه في المدة من 19 - 23 / 10 / 1424 هـ الذي يوافقه 13 - 17 / 12 / 2003 م وفيه تحذيرٌ وتنبيهٌ للمصارفِ من استغلالِ هذه المعاملةِ على غيرِ وجهها الشرعي ، ونَصَّ القرارُ على أن التورق المنظم الذي تجريه بعض البنوك محرم ، وقد ذكرنا القرار بكامله في جواب السؤال (98124) .
أما " شهادة التخزين " للسلعة التي ذكرها السائل فهي ليست بضاعة مشتراة حقيقة وداخلة في ملك البنك أو غيره من المؤسسات المالية التي تقوم بهذه المعاملة .
قال الدكتور محمد بن عبد الله الشباني :
"أما ما يُطلق عليه " شهادة التخزين " والتي يشار إليها في بعض عقود صيغ التورق بأنها تمثل حصة محجوزة قيمة وكمية خاصة بسلعة لصالح البنك عن طريق السمسار لغرض التصرف فيها مستقبلاً : فهي لا تمثل شهادة من وكيل البنك تثبت فيها وجود سلع تم استلامها من المنتجين وتم تخزينها في مستودعات خاصة بالبنك أو مخازن مؤجرة لصالح البنك تحدد أن هذه السلع خاصة بالبنك ، وما هذه الشهادة إلا شهادة يصدرها المنتجون لهذه السلع لبيوت السمسرة الذين يمارسون عمليات إنشاء وتداول العقود في سوق المعادن العالمي ( البورصة ) ، حيث يحدد فيها مواصفات هذه السلع وكمياتها وتاريخ تسليمها ، ويتم على ضوء هذه الشهادة تداول العقود بيعاً وشراء ، ومن ثم فلا يوجد مجال للتعامل مع السلعة نفسها داخل سوق العقود" .
وقال أيضاً :
"فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه البنوك تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى البنك ، وأن ما يطلق عليه " شهادة التخزين " لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة تملُّك ، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي ( البورصة ) أن التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة ، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقاً مع المنتج ، على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة ، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري ، وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها ، ولكون هذا التداول إنما يتم على أوراق ، وليس حيازة وتملكاً للسلع ، فإن بعض تلك البنوك أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكاً للسلع .
أما بعض البنوك فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب " شهادة التخزين " ، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد، ولتجنب الإلزام ومن أجل ترسيخ التحايل : لم يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض البنك بالبيع نيابة عنه ، وإنما أشير إلى ذلك في نص الوكالة ، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من البنك هي سلع يتم تداولها في سوق السلع ( البورصة ) ، بخلاف بنوك أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة جزءاً من العقد ، وهذا الأسلوب هو نوع من التهرب والتضليل ومحاولة إضفاء نوع من صحة البيع ، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسدة تفسد البيع ، ولكن هذا الأسلوب من التحايل لا يغيِّر من حقيقة الأمر" انتهى من مقال موسع في " مجلة البيان " .
وقال الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين :
"إذا كانت المصارف الإسلامية لم تستطع حتى الآن تحقيق أهدافها ، وكان ذلك بسبب أن الاتجاه العام الغالب لديها في استخدام الموارد لا يمكنها من ذلك ... فإن النتيجة المنطقية لذلك أنها لن تحقق في المستقبل ما عجزت عنه في الماضي .
والواقع يثبت أن المصارف الإسلامية بهذا الاتجاه ظلت تقترب من البنوك الربوية شيئاً فشيئاً ، وأن أوضح شاهد لذلك ما انتهت إليه المصرفية الإسلامية من اعتماد عمليتي " تيسير الأهلي " ، و " التورق المبارك " .
والظاهر أنه من الناحية العلمية فإنه من المستحيل القول إن الآثار السلبية للربا الاقتصادية والاجتماعية والسيكولوجية التي تتحقق في التمويل بالفائدة لا تتحقق في التمويل بـ " تيسير الأهلي " أو " التورق المبارك " بل إنه من الناحية الفقهية يستحيل على الفقيه دون أن يخادع نفسه أن يدَّعي وجود فارق بين هاتين العمليتين والاحتيال المحرم على الربا .
بهذا الاقتراب من البنوك الربوية : فإن المصارف الإسلامية ستفقد هويتها الحقيقية ، ولا يبقى لها إلا الاسم" انتهى من مقال – له - بعنوان " المصارف الإسلامية ما لها وما عليها " .
والخلاصة :
أننا لا نرى التعامل مع البنوك فيما يدعونه شراء وهو في حقيقته ليس كذلك ، وقد يسمون فعلهم هذا " مرابحة " أو " تورقاً " وهذا لا يغيِّر من الحكم شيئاً ، وهذه المعاملات هي احتيال للتوصل إلى إقراض الناس بفوائد ربوية .
وقد ورد عن السلف النهي عن شراء سلعة بالأجل ثم توكيل البائع في بيعها :
أ. عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل ، ثم أمَرَتْه أن يبيعه ، فباعه ، قال : فسألتُ سعيد بن المسيب فقال : أبصِر ألا يكون هو أنت ؟ قلت : أنا هو ، قال : ذلك الربا ، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك .
" مصنف ابن أبي شيبة " ( ٧ / ٢٧٥ ، ٢٧٦ ) .
ب. وقال ابن القاسم : سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل ، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع : بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع ، فقال مالك : لا خير فيه ، ونهى عنه .
" المدونة " ( ٤/١٢٥ ) .
والله أعلم
تعليق