الحمد لله.
أولاً:
الإجماع هو الأصل الثالث من الأصول التي تستمد منها الأحكام الشرعية، بعد الأصلين الأولين (الكتاب والسنة)، فهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإِسلامي.
فالاستدلال بالإجماع ليس عند عدم وجود دليل من الكتاب والسنة، لأنه لا يمكن حصول إجماع إلا ويكون مستنداً على نص من الكتاب والسنة، كما سيأتي بيانه.
لكن قد تخفى دلالة النص، أو يختلف فيها؛ فيستدل بالإجماع لبيان القطع في فهم نصوص الكتاب والسنة، فلا يتطرق خلاف في ثبوت النص، أو في فهمه ودلالته؛ لأنّ إجماعهم يدل على أنّ النص ثابت وأنّ فهمهم للنص بهذه الصورة لا يقبل صورة أخرى.
وقد يخفى مستند الإجماع، فيعتمد عليه في تقرير المسألة، لا لأن الإجماع بنفسه منشيء لحكم شرعي؛ لكن لأنه كاشف عن حكم الشرع في ذلك.
فهو استدلال متمم ومعزز للاستدلال بالأصلين، وليس عند عدم وجود دليل من الأصلين (الكتاب والسنة).
جاء في "موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي" (1/ 29): "الإجماع ليس دليلًا منفردًا عن الأصلين الأولين، بل هو تابع لهما، من حيث كونه لا يقع إلا وله مستند شرعي علمناه، أم لم نعلمه، فإذا وقع، دلّ ذلك على وجود الدليل الشرعي، وأن ذلك النص صحيح، غير مؤول ولا منسوخ، بخلاف النصوص الشرعية؛ فقد تكون محتملة التأويل، أو النسخ" انتهى.
فالإجماع مستند في الحقيقة إلى نصوص شرعية، سواء علمناها وتوصلنا إليها من خلال المصادر المتوفرة، أم لم نتمكن من الوصول إليها، كما هو قول جمهور الأصوليين، ولم يشذ إلا القليل بأن الإجماع يكون من غير مستند لنص من الكتاب والسنة.
قال الآمدي رحمه الله: "اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستنَدٍ يوجب اجتماعها، خلافا لطائفة شاذة، فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق، لا توقيف؛ بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند" انتهى من "الإحكام في أصول الأحكام" (1/ 261).
ثانياً:
وأما معنى قولهم "إجماع مستند من الكتاب أو السنة" فالأمر كما سبق بيانه: أنّ الإجماع إنما يكون راجعا إلى النص الشرعي، ومبنيا عليه؛ فلا إجماع إذا لم يوجد نص، سواء علمناه أو لم نعلمه، فالعلماء الذين أجمعوا إنما كان إجماعهم في قطعهم بثبوت النص، وفهم دلالته، وأنّه على هذا الوجه الذي صرح به الإجماع؛ لا يحتمل غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"لا يوجد قط مسألة مجمع عليها، إلا وفيها بيان من الرسول.
ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع؛ فيستدل به. كما أنه يَستدل بالنص، من لم يعرف دلالة النص.
وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن [=يعني: أن هذه من باب القياس، الذي يوافق النص في دلالته، ويقررها].
وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق؛ مع تلازمها. [يعني: أنه بالإضافة إلى تلازمها، فكل منها يدل على الحق بمفرده].
فإن ما دل عليه الإجماع، فقد دل عليه الكتاب والسنة.
وما دل عليه القرآن، فعن الرسول أُخذ.
فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه [أي: مأخوذ عن النبي، صلى الله عليه وسل].
ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها، إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة، وليس كذلك؛ بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية، لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة. والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره. فلما جاء الإسلام، أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة، ولم ينه عن ذلك. والسُّنة: قوله، وفعله، وإقراره؛ فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/ 195).
وقال:
"وقد استقرأنا موارد الإجماع، فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يَحتج بقياس، وفيها إجماع لم يعلمه، فيوافق الإجماع" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/196).
والله أعلم.
تعليق