الحمد لله.
أولا:
من الثابت في آداب الدعاء أن الداعي يعظم الرغبة ويعزم المسألة، ولا يعلق الدعاء على المشيئة، فلا يقول مثلا: اللهم اغفري إن شئت.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ ! اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ ) رواه البخاري (6339)، ومسلم (2679)، واللفظ له.
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (257334).
وأما ما ورد في حديث: ( اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلًا، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْنَ سَهْلًا إِذَا شِئْتَ ).
فهذا الحديث رواه ابن حبان في الصحيح "الإحسان" (3 / 255): من طريق سَهْل بْنِ حَمَّادٍ.
وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص 215)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (1 / 355): من طريق أَبي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ.
وإسماعيل الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (2 / 545): من طريق بشر ابن السري.
وورد أيضا كما في "الدعوات الكبير" للبيهقي (1 / 357)، وعند الديلمي كما في "زهر الفردوس" (2 / 331): من طريق عبيد الله بن موسى.
الأربعة يروونه: عن حَمَّاد بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ( اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلًا، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْنَ سَهْلًا إِذَا شِئْتَ ).
وبهذه الأسانيد صححه جمع من أهل العلم.
كما قال الشيخ شعيب في تعليقه على "الاحسان": " إسناده صحيح، وصححه الحافظ ابن حجر في "أمالي الأذكار" فيما نقله ابن علان (4 / 25) " انتهى.
وقال السخاوي رحمه الله تعالى:
" وكذا رواه القَعْنَبيّ، عن حماد بن سلمة، لكنه لم يذكر أنسا، ولفظه: ( وأنتَ تجعلُ الحَزْنَ إذا شِئتَ سهلًا ).
ولا يُؤَثِّر في وصله، ولذا أورده الضياء في "المختارة"، وصحّحه غيره " انتهى. "المقاصد الحسنة" (1 / 524).
وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: " هذا حديث صحيح"، نقله عنه ابن علان في "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (4/ 25).
وقال الشيخ الألباني، رحمه الله: "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم". "السلسلة الصحيحة" (6/ 903).
ورواية القعنبي عبد الله بن مسلمة المرسلة التي أشار إليها السخاوي، رواها البيهقي في "الدعوات الكبير" (1 / 355)، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا تَمْتَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ لَا سَهْلَ إِلَّا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلًا، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزَنَ إِذَا شِئْتَ سَهْلًا ).
وهذه الرواية المرسلة صوّبها أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى.
قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى:
" وسألت أبي عن حديث رواه محمَّد بْنُ أَبِي عُمَرَ العَدَنِي، عَنْ بِشْر بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ حمَّاد بْنِ سَلَمة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: ( اللَّهُمَّ، لَا سَهْلَ إِلاَّ مَا جَعَلْتَ سَهْلاً، وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الحَزْنَ سَهْلاً )؟
قال أبي: هذا خطأ؛ حدّثناه القَعْنَبي، عَنْ حمَّاد، عَنْ ثابت: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. مُرسَلًا، ولم يذكر أنساً. وبلغني أنّ جعفر بن عبد الواحد لَقَّن القَعْنَبيَّ: عَنْ أَنَسٍ ، ثم أُخْبِرَ بذلك، فدعا عليه.
قال أبي: هو حمَّاد، عَنْ ثَابِت، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مُرسَلًا. وكان بِشْر بْن السَّرِي ثَبْتًا، فليته ألاّ يكون أُدخِلَ على ابْن أَبِي عمر " انتهى. "العلل" (5 / 400 - 401).
ثانيا:
على القول بصحة خبر أنس رضي الله عنه، واتصال سنده، على ما هو المشهور فيه؛ فإن حديث أنس هذا لا يعارض حديث أبي هريرة: ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ ! اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ).
لأن حديث أنس ليس فيه تعليق الدعاء على المشيئة، فليس فيه مثلا: اللهم سهّل أمرنا إن شئت.
وأما عبارة: ( وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزَنَ إِذَا شِئْتَ سَهْلًا )، فهي ليست بدعاء، وإنما هي اخبار واقرار بسعة قدرته تعالى، فلا يعجزه شيء، فيفعل سبحانه وتعالى ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلماته، سبحانه؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. قال الله تعالى: ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) آل عمران/26.
فهي من باب التوسل بصفة سعة قدرته تعالى وكمالها بحيث لا يعجزه شيء، فكأن عبارة الخبر: اللهم سهل ما صعب من أمرنا فأنت على كل شيء قدير.
كقول الله تعالى: ( يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم /8.
فهو بمعنى حديث أبي هريرة، فكأن الداعي يقول: اللهم سهل لي ما صعب من أمري، فَإِنَّك لَا يَتَعَاظَمُك شيء.
والخلاصة:
عبارة: ( وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزَنَ إِذَا شِئْتَ سَهْلًا )، ليست من باب تعليق طلب التسهيل على المشيئة، وإنما هي اخبار واقرار بسعة قدرته تعالى، بحيث يفعل سبحانه ما يشاء، فهي من باب التوسل في الدعاء بكمال صفات الله تعالى.
والله أعلم.
تعليق