حديث اتخاذ العهد عند الله
ما مدى صحة هذا الحديث قبل أن أنشره ؟
قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه :
( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا ؟ قيل : يا رسول الله ! وما ذاك ؟
قال : يقول عند كل صباح ومساء : " اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير ، وتقربني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد "
فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعاً ، ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى
مناد : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة )
الجواب
الحمد لله.
أولا :
الدعاء بما ورد في هذا الحديث لا بأس به ولا حرج ، اقتداء بعبد الله بن مسعود رضي
الله عنه ، فقد صح عنه أنه كان يدعو به ، وكلماته جليلة عظيمة لها شواهد من الكتاب
والسنة الصحيحة .
غير أن لا يجوز اعتقاد الفضل المذكور في الحديث : أن ملكا يكتبه عنده ويختمه ويحفظه
إلى يوم القيامة ، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الفضل ، بل
ولا حتى الدعاء ، إنما ورد عن ابن مسعود أنه كان يدعو بكلماته ، ولم يرد عنه ذكر
ذلك الفضل له ، فيجب أن يتنبه إلى الفرق بين الأمرين .
ثانيا :
أما بيان تخريج الحديث ودرجته ، فهو كالآتي :
هذا الدعاء جاء عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم :
الأول : عن ابن مسعود رضي الله عنه .
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَالَ :
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ،
إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنْ
الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنْ الْخَيْرِ ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ
، فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنَّكَ لَا
تُخْلِفُ الْمِيعَادَ .
إِلَّا قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : إِنَّ عَبْدِي قَدْ
عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ . فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ )
قَالَ سُهَيْلٌ فَأَخْبَرْتُ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَوْنًا
أَخْبَرَ بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ : مَا فِي أَهْلِنَا جَارِيَةٌ إِلَّا وَهِيَ
تَقُولُ هَذَا فِي خِدْرِهَا .
هذا الحديث جاء من طريق مرفوعة ، وأخرى موقوفة ، وهي الأصح .
أما المرفوعة :
فمن طريق حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح وعبد الله بن عثمان عن عون بن عبد الله
بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود به .
رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/412) قال
ابن كثير في تفسيره (7/103) : انفرد به الإمام أحمد .
قال الهيثمى في "مجمع الزوائد" (10/174) :
" رجاله رجال الصحيح ، إلا أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود "
انتهى .
ولذلك ضعفه أيضا محققو المسند (7/32) ،
والشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6/9).
أما الموقوفة :
فمن طريق عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن
الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود به .
أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/68) وابن
أبي حاتم في "التفسير" – كما عزاه إليه ابن كثير في "التفسير" (5/265) ، والسيوطي
في "الدر المنثور" (5/542) – ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/186) ، والحاكم
في "المستدرك" (2/409) ، وأبو نعيم في "الحلية" (4/271)
إلا أن الحاكم لم يذكر في سنده أبا فاختة وهو سعيد بن علاقة والد ثوير بن أبي فاختة
– ويبدو أنه سقط من المطبوع .
قلت : وهذا سند صحيح ، ليس في رجاله مطعن ، اللهم إلا في المسعودي ، فقد أخذ عليه
العلماء أنه اختلط في آخر عمره ، ولكن نص ابن معين على أن حديثه عن عون بن عبد الله
صحيح قبل الاختلاط . انظر ترجمته في "تهذيب
التهذيب" (6/211)
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح .
وأخرجه محمد بن فضيل الضبي في "الدعاء" (رقم/51) موقوفا أيضا من طريق أخرى :
حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ومالك بن مغول ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عبد الله
بن مسعود ، قال : كان يقول : فذكره وفيه ( فما قالهن عبد قط إلا كتبن في رق ، ثم
ختمن بخاتم ، حتى يوافيها يوم القيامة ، أين أصحاب العهود ؟ )
قلت : ورواية القاسم بن عبد الرحمن عن جده عبد الله بن مسعود مرسلة ،
كما في "تهذيب التهذيب" (8/322) ، و"جامع التحصيل"
(ص/252)
الثاني : عن زيد بن ثابت رضي الله عنه :
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ دُعَاءً
وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ : قُلْ كُلَّ يَوْمٍ
حِينَ تُصْبِحُ :
( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ،
وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ
مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، مَا شِئْتَ
كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ،
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ
فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ ،
إِنَّكَ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ
، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَمَاتِ ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ ،
وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ
مُضِلَّةٍ ، أَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ، أَوْ
أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ ، أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ
ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ .
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ،
ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ، وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا ، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ
وَرَسُولُكَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةَ
حَقٌّ ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا ، وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى
ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا
بِرَحْمَتِكَ ، فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا أَنْتَ ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/191) ،
والطبراني في "المعجم الكبير" (5/119) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/421) ،
وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (رقم/47) بلفظ مختصر .
كلهم من طريق أبي بكر ابن أبي مريم ، عن ضَمْرَة بْن حَبِيبِ بْنِ صُهَيْبٍ ، عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ به .
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/697) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة
والجماعة" (3/489) من الطريق نفسها إلا أنه لم يذكر فيها أبا الدرداء ، بل رواه عن
زيد بن ثابت مباشرة .
قلت : وهذا السند له علتان :
الأولى : اتفقت كلمة المحدثين على ضعف أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ،
انظر "تهذيب التهذيب" (12/29) .
الثانية : الانقطاع بين ضمرة بن حبيب - ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/459) وفيها
أنه توفي سنة (130 هـ) - وبين أبي الدرداء توفي سنة (32هـ)
ولذلك علق الذهبي على قول الحاكم " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "
انتهى .
قال الذهبي في تعليقه : أبو بكر ضعيف فأين الصحة ؟
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" (5/157) متابعة لأبي بكر ابن أبي مريم ، من طريق
بكر بن سهل الدمياطي ثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن ضمرة بن
حبيب عن زيد بن ثابت ولم يذكر أبا الدرداء .
إلا أن بكر بن سهل الدمياطي (287هـ) قال فيه النسائي : ضعيف . كما في "سير أعلام
النبلاء" (13/426) ، وضمرة بن حبيب (130هـ) عن زيد بن ثابت (45،48هـ) منقطع أيضا .
لذلك ضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب" (397)
الثالث : عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من قال في دبر الصلاة بعد ما يسلم هؤلاء الكلمات ، كَتَبَهُ مَلَك في رق ، فختم
بخاتم ، ثم رفعها إلى يوم القيامة ، فإذا بعث الله العبد من قبره جاءه الملك ومعه
الكتاب ينادي : أين أهل العهود ؟ حتى يدفع إليه . والكلمات أن تقول :.. فذكر نحو
حديث ابن مسعود )
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول في
أحاديث الرسول" (2/272) من المطبوع ، وهو بسنده في المخطوط ( ورقة/207) - حيث إن
المطبوع خال من الأسانيد - :
قال الترمذي الحكيم : حدثنا عمر بن
أبي عمر ، قال ثنا عبدالله بن أبي أمية الفزاري ، عن أبي علي الرمَاح ، عن عمر بن
ميمون ، عن مقاتل بن حيان ، عن الأسود بن هلال ، عن أبي بكر الصديق به .
وفي هذا السند عمر بن أبي عمر شيخ الحكيم الترمذي ، فقد جاء في "لسان الميزان"
(1/31) نقل الحافظ عن الجوزقاني قوله فيه : مجهول ، ثم عقب بقول : " عمر معروف ،
لكنه ضعيف " انتهى .
والواقف على حديثه يرى فيه من المناكير ما يجزم بضعفه ووهنه ، ولعله ممن يركب
الأسانيد أو يسرقها . كما أن عبد الله بن أبي أمية شيخه لم نجد من يوثقه من أهل
العلم .
فالخلاصة أن هذا الدعاء لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما من أراد
أن يدعو بكلماته من غير اعتقاد فضل خاص لها فلا حرج عليه إن شاء الله ، لا سيما وقد
صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، الدعاء به .
والله أعلم .