توفيت والدته وهو غير متخيل بُعدها عنه
توفيت أمي رحمة الله عليها ، ولكني غير قادر أتخيل أنها بعدت عني ، فهل هذا اعتراض على أمر الله ؟
الجواب
الحمد لله.
نسأل الله تعالى أن يتغمد والدتك بواسع رحمته ، وأن يعاملها بعظيم لطفه ومغفرته ،
وأن يجمعك بها في جنة الخلد عند مليك مقتدر .
ونوصيك - أخانا السائل - بالتصبر والتحلم ، وأنت المؤمن بالله العظيم ، المسلِّمُ
بقضائه وقدره ، تعلم أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر ، وتدرك أن الموت حق ،
والساعة حق ، والله حق ، والنبي صلى الله عليه وسلم حق ، فأي شيء يطلب الإنسان وراء
ذلك اليقين الذي قامت عليه السماوات والأرض ومن فيهن .
يقول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الإنشقاق/6
ويقول سبحانه : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )
آل عمران/185
فمن آمن بهذه المعاني ، وصدق بأن القدر محتوم ، والأجل مكتوب ، لم يضره ما تعانيه
نفسه من تقلب أو تردد في احتمال المصائب والبلايا ، ما لم ينقض إيمانه هذا ، أو
ينطق بما يسخط الله عز وجل .
وقد قال الله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
التغابن/11.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله ـ تفسير السعدي (876) ـ :
" هذا عام لجميع المصائب، في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم، فجميع ما
أصاب العباد، فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله تعالى ، وجرى به قلمه، ونفذت
به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في
هذا المقام، أم لا يقوم بها ؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في
الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه،
فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند
ورودها ، والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم
الجزاء من الثواب ، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ وعلم من هذا أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ
قضاء الله وقدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، ويكله الله إلى نفسه، وإذا وكل
العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد،
قبل عقوبة الآخرة ، على ما فرط في واجب الصبر.
هذا ما يتعلق بقوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ في مقام
المصائب الخاص، وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن الله أخبر أن كل من
آمن أي: الإيمان المأمور به، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
والقدر خيره وشره، وصدَّق إيمانَه بما يقتضيه الإيمان من القيام بلوازمه وواجباته،
أن هذا السبب الذي قام به العبد أكبر سبب لهداية الله له في أحواله وأقواله وأفعاله
، وفي علمه وعمله.
وهذا أفضل جزاء يعطيه الله لأهل الإيمان، كما قال تعالى في الأخبار: أن المؤمنين
يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال: يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك
لما معهم من الإيمان " . انتهى كلامه رحمه
الله .
ويقول العلامة محمد ابن عاصم الغرناطي الأندلسي في كتابه "جنة الرضا في التسليم لما
قدَّر الله وقضى" (3/20-29) :
" إن كان المفقود الوالدين ، فَقَدْ فَقَدَ هو صلى الله عليه وسلم والِدَيه في حال
الطفولة ، وكم منا من تمتع بهما إلى زمن الكهولة ! وفي الله عِوضٌ مِن كل ذاهب ،
وما وهب الله من عظيم الأجر أفضل هبة من أكرم واهب .
قال المتنبي :
وقد فارق الناسُ الأحبةَ قبلنا وأعيا دواءُ الموت كلَّ طبيب
وقال أبو نواس :
وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريض "
انتهى .
والقضية ليست في أن تتخيل وجود أمك معك ، أو أن يصعب عليك نسيان حياتها ، وذكراها
معك ، فمع الأيام تعتاد النفس الصبر والسلوان :
والعهد في الليالي تُنَسّي
والذكي من خرج من مصابه بأجر الصابرين ، فمن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم
.
وإنما عليك أن ترقب قلبك وتحفظه : ألا يكون فيه شيء من الجزع والهلع ، أو الاعتراض
والتسخط على ما قدر الله وقضى ، وأن يحفظ لسانه فلا ينطق بما يغضب الرب سبحانه :
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ
الْعَامِرِيُّ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، قَالَ : اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ
، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ ، فَقَالَ :
أَقَدْ قَضَى ؟ قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا ، فَقَالَ : أَلَا تَسْمَعُونَ
: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ ،
وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا ، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ ، أَوْ يَرْحَمُ .
رواه البخاري (1034) ومسلم (924) واللفظ له
.
والله أعلم .