والدها بخيل ، ويكره زيارتها له ، ويعاقب أمها إن جاءت للزيارة
والدي حريص جدّاً على المال ، إلى درجة أنه يكره الضيف ، لكنه في الأيام الأخيرة صار يكره قدومنا نحن - بناته - إلى البيت ، رغم أننا كنا نزوره ، ونطلب من والدتنا أن لا تضيفنا شيئاً ؛ لأنه بعد ذلك سيعاقبها ! بمنع النفقة عليها ، وعلى أختي ، ورغم ذلك كنا نذهب إلى زيارته ، وفي يوم من الأيام طردني أنا وأختي ( نحن متزوجتان ، وزوجانا يحترمانه ) وهو يسبب لنا الحرج معهما .
الجواب
الحمد لله.
أولاً:
قد أحسنت أنت وأختك بصلة والديكما ، وزيارتهما ، والسعي نحو الأكمل في برِّهما ،
وهي وصية الله للأولاد ، وهذه الوصية تشمل الوالدين اللذين بلغا من السوء والشر
والفساد أن يجاهدا أولادهم حتى يتركوا دينهم ، فكيف من كان أقل من ذلك سوء وشرّاً
وفساداً ؟! وقد أحسن من عمل بما يعلم .
قال الله تبارك وتعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/ 14 ، 15 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – :
( وَإِنْ جَاهَدَاكَ ) أي : اجتهد والداك ، ( عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ؛ لأن
حق اللّه مقدَّم على حق كل أحد ، و " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .
ولم يقل : " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما " بل قال : ( فَلا
تُطِعْهُمَا ) أي : بالشرك ، وأما برُّهما : فاستمر عليه ، ولهذا قال : (
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف ،
وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي : فلا تتبعهما .
" تفسير السعدي " ( ص 648 ) .
فعلى الأولاد – ذكوراً وإناثاً – أن يعقلوا وصية الرب تعالى ، وأن يعلموا أن اتصاف
والديهم بالدعوة إلى الكفر ليس بمبيح لهم العقوق ، والإيذاء بالقول والفعل ،
فأولى أن تبقى صلتهم ، ويستمر برهم
لمن كان مسلماً وإن ساء خلقه .
ثانياً:
مما لا شك فيه أن البخل صفة ذميمة ، وأن الحرص على جمع المال بِنَهم ، وعدم إنفاقه
في وجوهه الشرعية : من الصفات القبيحة التي لا يليق بمؤمن أن يتخلق بها ، وقد يصيبه
من الإثم ما يصيبه إن كانت تلك الوجوه من النفقة واجبة عليه ، كالزكاة ، والإنفاق
على الزوجة ، وعلى الأولاد العاجزين عن الكسب .
وقد جاء ذم البخل وأهله في هذه الشريعة المطهرة ، ومن ذلك :
1. قال سبحانه وتعالى: ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا ) النساء/ 37 .
2. وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى .
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) الليل/ 5 – 10 .
3. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
: ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ
فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ
اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفاً ) .
رواه البخاري ( 1374 ) ومسلم ( 1010 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وأما الدعاء بالتلف : فيحتمل تلف ذلك المال بعينه ، أو تلف نفس صاحب المال ،
والمراد به : فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها .
قال النووي : الإنفاق الممدوح : ما كان في الطاعات ، وعلى العيال ، والضيفان ،
والتطوعات .
وقال القرطبي : وهو يعم الواجبات ، والمندوبات ، لكن الممسك عن المندوبات : لا
يستحق هذا الدعاء ، إلا أن يغلب عليه البخل المذموم ، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج
الحق الذي عليه ، ولو أخرجه .
" فتح الباري " ( 3 / 305 ) .
فاتصاف والدك بالبخل والحرص على فتات الدنيا : خلق ذميم ، وكراهيته لبناته من أجل
ذلك البخل والحرص : يدل على تمكن تلك الصفة القبيحة فيه ، ومنعه النفقة على زوجته
وابنته : من المحرَّمات ، وهو أمر يبيح لوالدتك الأخذ من ماله دون علمه وإذنه ؛ فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة - زوج أبي سفيان ، وقد اشتكت عدم نفقته
عليها - : ( خُذُي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوف ) رواه البخاري (
5049 ) ومسلم ( 1714 ) .
وأنتِ وأختكِ عليكما مراعاة صفات البخل والحرص عند والدكما ، وعدم التسبب لوالدتك
بالأذى والضرر ، ومثل هذه الصفات عنده تقتضي منكما عدم تكليفه نفقات الضيافة ،
والتي تسبب له الضيق والضجر ، والمعلوم عن هؤلاء البخلاء والحريصين محبة الأخذ
وليس الإعطاء ، فلو أحضرتما معكما عند الزيارة من الهدايا ، والأطعمة ، وما تيسر من
الأغراض : لرأى في زيارتكما سعداً وفرحاً وسروراً ، ولتمنى أن تكثر منكما هذه
الزيارات ، وفي الوقت نفسه : تعالجون ما عنده من حرص وبخل ، بالكلمة الحسنة ،
والرفق ، واللِّين ، وبذلك تجمعون بين صلته ، وصلة والدتكما ، وعدم التسبب بالقطيعة
لكما ، أو بمنع النفقة عن أمكما وأختكما .
والله أعلم