منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث وفي كل خير
هل منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث ؟
الجواب
الحمد لله.
الفقيه هو المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية ، ويوضح مقررات الشريعة ، ويشرح
للناس أحكام دينهم ، فدائرة حديثه مقاصد الدين ، ومحكمات القرآن المبين ، وتحقيق
الفهم الصحيح لما يريده الله سبحانه وتعالى من العباد .
وهذا عمل لا يقوم به إلا أفراد الناس والقلائل منهم ، لما يقتضيه من اطلاع واسع على
النصوص ، وممارسة طويلة لكلام أهل العلم ، وذكاء في دراسة الواقع وتنزيل الأحكام
الشرعية عليه .
أما راوي الحديث : فهو ناقل لما سمع من السنة النبوية ، يؤدي ما تحمله بكل صدق
وأمانة ، ويعتني بتبليغ الحديث كما بلغ إليه بأي طريقة كانت ، ولا يتكلف عناء شرح
الحديث أو استنباط الأحكام الشرعية منه ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص
والمطلق والمقيد ، وإنما يقتصر دوره على الأداء والرواية .
وهذا عمل يتطلب الدقة والعناية النقلية ، ولا يقتضي نظرا فقهيا ولا عناية أصولية .
وقد وصف الإمام الأعمش رحمه الله عملَ كلٍّ مِن الفقيه وراوي الحديث بوصف دقيق فقال
:
" يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة " انتهى .
"نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادي" (1/45) .
ولا يخفى أن عمل كُلٍّ من الطبيب والصيدلي عمل متكامل ، لا يستغني أحدهما عن الآخر
، فكان لكل منهما من الفضل والتأثير القدر البالغ من الأهمية ، وبذلك جاءت الشريعة
أيضا تقر لكل من الفقيه والراوي بالفضل والأجر عند الله تعالى ، مع مزيد فضل للفقيه
( الطبيب ) الذي يعتني بالفهم والاستنباط .
وقد استنبط بعض أهل العلم هذا التقرير من قوله صلى الله عليه وسلم : ( نَضَّرَ
اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ
حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ
بِفَقِيهٍ ) رواه أبو داود (3660)
قال الرامهرمزي (ت 360هـ) رحمه الله : " ففرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل
السنة وواعيها ، ودل على فضل الواعي بقوله : ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ،
ورب حامل فقه غير فقيه ) وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر ، مثال ذلك أن تمثل
بين مالك بن أنس وعبيد الله العمري ، وبين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي ، وبين أبي
ثور وابن أبي شيبة ، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل ، وهذا طريق
الإنصاف لمن سلكه ، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده " انتهى .
"المحدث الفاصل" (1/169-170) .
وأما من جمع بين الحسنيين ، فوعى مقالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحفظ ما جاء به
من العلم ، وتفقه في معانيه ، فانتفع به في نفسه ، ونفع به الناس ، فهؤلاء خير
أصناف الناس قاطبة .
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى
وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ
طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ،
وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ
فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا ، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى
إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ ، لَا تُمْسِكُ مَاءً ، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً .
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ
اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ،
وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ) رواه البخاري (79)
، ومسلم (2282) .
الغيث : المطر . الأجادب : الأرض التي لا تنبت كلأ . القيعان : جمع القاع وهو الأرض
التي لا نبات فيها .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث
، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع ، وكذلك الناس :
فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر ، فيحيى بعد أن كان ميتا ، وينبت الكلأ فتنتفع
بها الناس والدواب والزرع وغيرها ، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم
فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع .
والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها ، لكن فيها فائدة ، وهي إمساك
الماء لغيرها ، فينتفع بها الناس والدواب ، وكذا النوع الثاني من الناس ، لهم قلوب
حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة ، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني
والأحكام ، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به ، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب
محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به ،
فهؤلاء نفعوا بما بلغهم .
والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ، ونحوها ، فهي لا تنتفع بالماء ، ولا
تمسكه لينتفع بها غيرها ، وكذا النوع الثالث من الناس ، ليست لهم قلوب حافظة ، ولا
أفهام واعية ، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم "
انتهى .
"شرح مسلم" (15/47-48) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" شبه صلى الله عليه و سلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث ، لما يحصل بكل واحد
منهما من الحياة والنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد ، فإنها بالعلم
والمطر .
وشبه القلوب بالأراضي التي وقع عليها المطر ، لأنها المحل الذي يمسك الماء ، فينبت
سائر أنواع النبات النافع ، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته
وثمرته .
ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام ، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط
أحكامه واستخراج حكمه وفوائده :
أحدها : أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه ، واستنبطوا وجوه
الأحكام والحكم والفوائد منه ؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء ، وهذا بمنزلة
الحفظ ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط ...
فهذا مثل الحفاظ الفقهاء ، أهل الرواية والدراية .
القسم الثاني : أهل الحفظ الذين رُزِقوا حفظه ونقله وضبطه ، ولم يرزقوا تفقها في
معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه ، فهم بمنزلة من يقرأ
القرآن ويحفظه ، ويراعي حروفه وإعرابه ، ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله ، كما قال
على بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه ) . والناس
متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم تفاوت ، فرب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين
، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين ، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس
فانتفعوا به ، هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع .
فهؤلاء القسمان هم السعداء ، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا ، وذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
القسم الثالث : الذين لا نصيب لهم منه ، لا حفظا ولا فهما ، ولا رواية ولا دراية ؛
بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان ، لا تنبت ولا تمسك الماء .
وهؤلاء هم الأشقياء ، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم ، كل بحسب ما قبله
ووصل إليه ، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها ، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه ،
والقسم الثالث لا علم ولا تعليم ، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسا ولم يقبلوه ،
وهؤلاء شر من الأنعام ، وهم وقود النار .
فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه
، وشقاء من ليس من أهله ، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم ،
وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد .
وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر ، بل أعظم ، وأنهم إذا
فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث .
قال الإمام أحمد : الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن
الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين ، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس
" انتهى .
"مفتاح دار السعادة" (1/65-66) .
فيا أيها الأخ الكريم ، أين أنت من ذلك كله ، ومن أي أنواع الأرض ـ يا ترى ـ طينتك
، أمن التي انتفعت في نفسها ، ونفعت الناس ، فحفظت وتفقهت ، وعملت وعلّمت ؟ أمن
التي حفظت لغيرها حتى انتفع ، والدال على الخير كفاعله ؟
إننا نعيذك بالله ، ونكرمك عن أن تكون طينتك من الأرض السباخ ، فلا أمسكت ولا أنبتت
، ولا حفظت ولا تفقهت ، ثم هي تقيم نفسها مقام الحكم بين الفريقين !!
انظر في همتك ـ يا عبد الله ـ ووطنها على معالي الأمور ، واطلب لها الحفظ والفقه ،
فإن عجزت عن بعض ذلك ، فليس أقل من أن تكون دالا على الخير ، حافظا لما أمرت به .
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع
الهَمَلِ
والله أعلم .