صلاة الاستخارة لترجيح أحد القولين
هل يجوز أن يستخير المسلم لترجيح أحد القولين عند العلماء ؟ مع العلم أنَّ كلا القولين قوي ، وهو يريد معرفة الصحيح منهما لأنهما مختلفين ؟ وذلك ليتبع الصحيح .
الجواب
الحمد لله.
ثبت عن بعض السلف استخارتهم في مسائل العلم المختلف فيها ، كما ثبت عن بعضهم
استخارتهم في ترجيح حال الرواة المختلف فيهم ، ومن ذلك :
1. روى عبد الرزاق في " المصنف " ( 10 / 301 ) عن ابن المسيب : ( أن عمر بن الخطاب
كتب في الجد والكلالة كتابا ، فمكث يستخير الله يقول : اللهم إن علمت فيه خيرا
فأمضه ، حتى إذا طعن دعا بالكتاب ، فمحى فلم يدر أحد ما كان فيه ، فقال : إني كتبت
في الجد والكلالة كتابا ، وكنت أستخير الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه
) .
2. وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله من أكثر العلماء استخارة في مسائل العلم ، حتى
صرح في كتابه " الأم " في نحو أربع عشرة مسألة أنه قد استخار الله تعالى فيها ،
وكان منها قوله في " الأم " ( 2 / 44 ) :
وقد قيل : في الحلي صدقة ، وهذا ما أستخير الله عز وجل فيه ، قال الربيع : قد
استخار الله عز وجل فيه ، أخبرنا الشافعي : وليس في الحلي زكاة .
انتهى .
3. كما كان ابن حبان من المحدثين يستخير الله تعالى في الرواة الذين يشتبه حالهم
عليه ، ويكثر من التصريح بذلك في كتبه ، خاصة كتاب " المجروحين " ، ومن ذلك قوله في
( 1 / 194 ) : بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري : من أهل البصرة ، يروي عن
أبيه عن جده ، روى عنه الثوري وحماد بن سلمة ، كان يخطئ كثيراً ، فأما أحمد بن حنبل
وإسحاق بن إبراهيم رحمهما الله فهما يحتجان به ويرويان عنه ، وتركه جماعة من أئمتنا
، ولولا حديث ( إنا آخذوه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا ) لأدخلناه في الثقات ، وهو
ممن أستخير الله عز وجل فيه .
انتهى .
والأمثلة عن أهل العلم في الالتجاء إلى الاستخارة حين تشتبه عليهم المسائل كثيرة ،
وإنما سقت منها الشيء اليسير للتدليل على المقصود .
لكن ما معنى قولهم " هذا مما أستخير الله فيه " و " هذا ممن أستخير الله فيه " ؟.
الظاهر أن معنى قولهم هو دعاء الله تعالى بأن يوفقهم لصحة الترجيح ، والصواب من
الأقوال في المسألة أو الراوي ، وليس معناه أنهم كانوا يستخيرون الاستخارة التي هي
الصلاة بدعائها ؛ وذلك لعدم تطابق الدعاء مع الذي يريدون وينشدون ، ففي دعاء
الاستخارة " فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه " فكيف سيكون منطبقا على مسألة
فقهية ، أو على حال أحد رواة الحديث ؟! .
فالذي يظهر أن هؤلاء الأئمة يطلبون من الله تعالى التوفيق للصواب في مسائل العلم ،
لا أنهم يدعون دعاء الاستخارة بصلاتها .
والغاية من الاستخارة هو طلب الهداية من الله سبحانه وتعالى إلى خير الأمرين
المشتبهين الذين وقع التردد فيهما ، فإن الهداية والتوفيق من الله سبحانه ، وهو
يعلم ولا نعلم ، وهو علام الغيوب ، ومن اعتمد على نفسه ضل ، ومن اتكل على عقله ولم
يستعن بمولاه هلك ، وأولى ما يجب على العبد أن يستعين الله عليه هو الفهم الصحيح
لدين الله ، واختيار أنسب الأقوال وأحسنها ، والاستخارة هي وسيلته إلى ذلك ، بل قد
تكون أوثق سبيل إلى اختيار أحد القولين الذين اشتبهت أدلتهما إلى حد كبير .
ولا يمنع أن يكون مع دعاء الإمام أو الفقيه ربه تعالى أن يوفقه للصواب في مسائل
العلم أن يُسبق دعاءه بصلاة ، ويمكن تسمية هذا الفعل تجوزاً " استخارة " ، أو يكون
ذلك نسبة للدعاء لا للصلاة ، أما الصلاة والدعاء الوارد في حديث جابر المشهور فلا
يمكن أن يكون هو المقصود في قولهم أنهم يستخيرون الله تعالى في كذا وكذا .
وأخيراً :
لا يظن أن الاستخارة في مسائل العلم تناقض ما أمر الله به من اتباع الدليل والبرهان
، فإن اللجوء إلى الاستخارة يكون عند انعدام الدليل أو عدم ظهوره أو وجود معارض
مساو ، أو عند اشتباه المسألة في نفس العالم وإشكالها في الفهم عليه ، وليس في شيء
من ذلك ترك للدليل والبرهان ، بل فيه استعانة بالله سبحانه على الفهم ، ولجوء إليه
ليرشد إلى الحق ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه إلى الحق .
عن عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قالت : ( كَانَ النبي صلى الله
عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ : اللَّهُمَّ رَبَّ
جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ،
عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ
بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
رواه مسلم ( 770 ) .
وانظر في صلاة الاستخارة وبعض أحكامها جواب السؤالين : (
2217 ) و (
11981 ) .
والله أعلم