حكم التصفير
ما حكم التصفير - سواء أكان بتلحين ، أم كان لأجل نداء الشخص البعيد جدا ؟
الجواب
الحمد لله.
اختلف أهل العلم في حكم التصفير أو الصفير على ثلاثة أقوال :
القول الأول : المنع والتحريم .
واستدلوا عليه بأن التصفير هو من خصال الجاهلية ، وقد ذم الله في القرآن الكريم
كفار قريش على هذا الفعل ، فقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ ) الأنفال/35.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (26/390) :
" الصفير لا يجوز ، ويسمى في اللغة : ( المكاء ) ، وهو من خصال الجاهلية ، ومن
مساوئ الأخلاق ، ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً ) " انتهى.
القول الثاني : الكراهة .
ووجهه أن الدليل السابق لا يقوى على القول بالتحريم ، لكن مشابهة الكفار في عمل من
أعمالهم من غير حاجة مذموم في الشريعة ، فكان القول بالكراهة .
يقول ابن مفلح رحمه الله :
" قال الشيخ عبد القادر رحمه الله : يكره الصفير والتصفيق " انتهى.
"الآداب الشرعية" (3/375)
القول الثالث : الجواز .
واستدل أصحاب هذا القول بعدم ورود نص يدل على التحريم أو الكراهة ، قالوا : والأصل
في العادات الإباحة . أما الآية السابقة فهي تنعى على كفار قريش تعبدهم لله تعالى
بهذه الأعمال الهوجاء : التصفيق والتصفير ، فقد كانوا يتخذون ذلك عبادة وشعيرة
يتقربون إلى الله بها ، وهذا أمر زائد على التصفير المجرد من نية العبادة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" كان المشركون يجتمعون في المسجد الحرام يصفقون ويصوتون ، يتخذون ذلك عبادة وصلاة
، فذمهم الله على ذلك ، وجعل ذلك من الباطل الذي نهى عنه " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (3/427)
يقول أبو بكر الجصاص رحمه الله :
" سمي ( المكاء ) و ( التصدية ) صلاة ؛ لأنهم كانوا يقيمون الصفير والتصفيق مقام
الدعاء والتسبيح . وقيل : إنهم كانوا يفعلون ذلك في صلاتهم " انتهى.
"أحكام القرآن" (3/76)
فإذا لم يفعل ذلك على وجه العبادة لم يبق وجه للمنع أو التحريم ، خاصة إذا قامت
الحاجة لإصدار صوت الصفير ، وهي حاجات كثيرة اليوم ، فقد أصبحت الصافرة تستعمل
اليوم لدى شرطة المرور ، كما أصبحت أصوات كثير من الأدوات الكهربائية تتضمن هذا
الصوت ، والأم قد تصدر هذا الصوت لإسكات طفلها والغناء له ، كما قد يضطر إليه بعض
الناس لمناداة البعيد ، ونحو ذلك .
ولكن إذا اتخذ التصفير لإيذاء الناس وإزعاجهم ، أو للتحرش بالفتيات ، أو قصد به
التشبه بالكفار والفساق وعادتهم : فيحرم حينئذ باتفاق .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي :
" ما حكم التصفيق والتصفير ، وأي نوع من التصفير محرم ، وما دليل التحريم ؟
فأجاب رحمه الله :
الآن لو أنك قمت تصفق وتصفر ماذا سنقول : هذا مجنون أم عاقل ؟!!
فما هو سبب التصفيق والتصفير ؟
أما إذا كان التصفيق للإنسان الذي تميز عن غيره في النجاح ، أو أجاب جواباً صواباً
، أو ما أشبه ذلك ، فأنا لا أرى فيه بأساً .
أما التصفير فأكرهه كراهة ذاتية ، ولا أستطيع أن أقول : إنه مكروه كراهة شرعاً ؛
لأنه ليس عندي دليل .
وأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال ،
وتصفق النساء ) فهذا في الصلاة .
وأما قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً ) الأنفال/35
والمكاء : التصفير .
والتصدية : التصفيق .
فهؤلاء كانوا عند المسجد الحرام يتعبدون الله بذلك ، بدل أن يركع ويسجد يصفق ويصفر
.
أما إنسان رأى شخصاً تفوق عن غيره وأراد أن يشجعه وصفق ، فلا أرى في هذا بأساً .
أما التصفير فأنا أكرهه كراهة ذاتية ، وليس عندي دليل ، ولو أن شخصاً طلب مني
دليلاً ، فلا أستطيع أن أقول : عندي دليل " انتهى.
"لقاءات الباب المفتوح" (رقم/119، سؤال رقم/4) .
ولعل أقرب الأقوال في هذه المسألة أن الصفير مكروه ، خاصة إذا لم يكن هناك حاجة
تدعو إليه ؛ فالإشارة إليه في الآية بوصف الذم ، وكونه من شأن أهل الجاهلية ، يدعو
إلى التنزه والابتعاد عنه .
وقد ذُكر عن ابن عباس ومجاهد ، إن صح ذلك عنهما ، أن الصفير كان منكرات قوم لوط
التي ذمهم الله بها .
انظر : تفسير الآية (29) من سورة العنكبوت : تفسير ابن كثير (6/276) ،
الزواجر عن اقتراف الكبائر ، لابن حجر الهيتمي (2/231) .
ثم إن آية سورة الأنفال السابقة : (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) ، وإن كان الظاهر منها أنهم جعلوا نفس الصفير
والتصفيق ( المكاء والتصدية ) صلاة وعبادة ، كما قاله بعض أهل العلم ، فقد ذهب غير
واحد من أهل العلم إلى أن الاستثناء في الآية منقطع ، وأن المعنى : أنهم وضعوا
الصفير والتصفيق موضع الصلاة ، لا أنهم تقربوا إلى الله بنفس المكاء والتصدية .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" قوله تعالى : وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً
الآية .
المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، قال بعض العلماء : والمقصود عندهم بالصفير
والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل
لهذا قوله تعالى : وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا
فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون [ فصلت : 26 ]"
أضواء البيان (2/162) .
وقال الشيخ ابن عاشور رحمه الله :
" ولا تُعرف للمشركين صلاة ؛ فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاةً : مشاكلةٌ تقديرية ؛
لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت ، كان
من جملة طرائق صدهم إياهم : تشغيبُهم عليهم ، وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين
وصلاتهم بالمكاء والتصدية . قال مجاهد : فعل ذلك نفر من بني عبد الدار ، يخلطون على
محمد صلاته .
وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام ، فلما فعلوا ذلك
للاستسخار من الصلاة : سمي فعلهم ذلك صلاة ، على طريقة المشاكلة ... ؛ فلم تكن
للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية .
وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين : مجاهد وابن جبير وقتادة .
ويؤيد هذا قوله ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) ؛ لأن شأن التفريع أن يكون جزاء
على العمل المحكي قبله ، والمكاء والتصدية لا يُعدَّان كفرا إلا إذا كانا صادرين
للسخرية بالنبي صلى الله عليه و سلم وبالدين ، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في
المسجد الحرام فليس بمقتض كونه كفرا ، إلا على تأويله بأثر من آثار الكفر .. "
انتهى .
"التحرير والتنوير" (9/339) .
وإلى ذلك المعنى الذي شرحه ابن عاشور رحمه الله ، وقرره الشينقيطي ، ينحو الزمخشري
في تفسيره (2/218) ، وأبو حيان (4/485) ، وغيرهما .
وانظر جواب السؤال رقم : (105450)
.
والله أعلم .