جواز طرد المؤذي للمصلين في صلاتهم بأقواله وأفعاله من المسجد
يأتي إلينا رجل يصلي وهو مواظب على جميع الصلوات ودائما يذكر الله ، ولكن بعد فترة من الزمن قد أصابه نوع من النسيان ، أو مرض آخر لا نعرفه ، بدأ برفع صوته أثناء الصلوات ، وهذا منذ ما يقارب السنَة ، فينزعج منه المصلون ، والكثيرون أصبحوا يوبخونه ، وفي الحقيقة لم يعد هناك تركيز ، ولا خشوع في الصلاة ، إلى أن طرده أحد المصلين من المسجد ، وأنذره على أن لا يعود مرة أخرى ، وهو يبلغ من العمر ما يقارب الستين ، وهو غير مؤذي ، ولا يتكلم مع أحد إلا للسلام ، وقد آلمني طرده من المسجد .
لا أدري هل الأفضل له أن يصلي في بيته كي لا يفقد المصلون خشوعهم ويأتي عليه بإثم ، مع أنه لا يعي بما يفعله ؟
الجواب
الحمد لله.
أولاً:
يجب على المسلمين أن يراعوا رفعة بيوت الله تعالى ، وتطهيرها من الأقوال والأفعال
غير اللائقة بتلك البيوت ، قال الله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) النور/36 ، 37
.
قال ابن كثير رحمه الله :
" ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) أي : أمر الله تعالى برفعها ، أي :
بتطهيرها من الدنس ، واللغو ، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ ) قال : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها "
انتهى .
"تفسير ابن كثير" (6/62) .
ثانياً:
لا يحل لأحدٍ أن يجهر بالقرآن أو الذِّكر فيشوش على غيره من المصلين .
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ
وَقَالَ : ( أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا ، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْقِرَاءَةِ ) ، أَوْ قَالَ
: ( فِي الصَّلاَةِ ) رواه أبو داود ( 1332
) ، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
فمن يشوش على الناس صلاتهم برفع
صوته : فهي أذية لهم ، وعلى الناس تنبيهه وزجره ، فإن لم يرتدع : جاز طرده من
المسجد ، وإن كان مريضاً أو مجنوناً : فيُخاطب وليُّه بمنعه من دخول المسجد ، فإن
لم يستجب الولي ، أو ذلك المؤذي : جاز طرده من المسجد ؛ صيانةً لبيوت الله من العبث
فيها ؛ وحفاظاً على صلاة الناس وعبادتهم ، وطرد هذا أولى من طرد المؤذي للناس
برائحة البصل والثوم .
فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال : ( إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لاَ أَرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْنِ ، هَذَا الْبَصَلَ
وَالثُّومَ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ
رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى
الْبَقِيعِ ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا )
رواه مسلم ( 567 ) .
قال القرطبي رحمه الله :
" قال العلماء : وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يُتأذى به : ففي القياس :
أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان [سليط اللسان] ، سفيهاً
عليهم ، أو كان ذا رائحة قبيحة ، أو عاهة مؤذية كالجذام ، وشبهه ، وكل ما يتأذى به
الناس : كان لهم إخراجه ، ما كانت العلة موجودة حتى تزول .
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام
رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه ، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ،
ويده ، فشُوور فيه ، فأفتى بإخراجه من المسجد ، وإبعاده عنه ، وألا يشاهِد معهم
الصلاة ، إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه ، فذاكرتُه يوماً أمره ،
وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك ، وراجعته فيه القول ، فاستدل بحديث " الثُوْم
" ، وقال : هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم ، وصاحبه يُمنع من شهود الجماعة في
المسجد " انتهى من "تفسير القرطبي" (12/267
، 268 ) باختصار .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : يوجد في قريتنا شاب مختل العقل ،
ويقلد الناس في كل شيء ، ويحضر للجامع عند كل صلاة ويصف مع الناس للصلاة ، ولكنه
يركع قبل الإمام ، ويسجد أيضاً كما يشاء ، وكل أفعاله تخالف أفعال المصلين لدرجة
أننا تضايقنا منه ، هل يجوز لنا أن نمنعه من الحضور للمسجد ؟ .
فأجاب :
" هذا الرجل المختل العقل : لا شك أن حضوره إلى المسجد على هذا الوجه الذي ذكره
السائل موجب لانشغال المصلين به ، ولهذا أوجه النصيحة إلى وليِّه أن يمنعه من
الحضور إلى المسجد ؛ لما في ذلك من أذية المصلين ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه
وسلم قال للرجل الذي رآه يتخطى رقاب الناس وهو يخطب الناس يوم الجمعة ، فقطع النبي
صلى الله عليه وسلم خطبته وقال له : ( اجلس فقد آذيت ) : فإنَّ ما ذكره السائل عن
هذا الرجل أشد إيذاءً من تخطي الرقاب ؛ لأن متخطي الرقاب غاية ما يكون منه أن يشغل
الناس عن استماع الخطبة ، أما هذا فإنه يشغل الناس عن الخشوع في الصلاة ، وحضور
القلب فيها ، فأكرر النصيحة لوليه أن يمنعه من حضور المسجد تفادياً لإيذائه ، وإذا
كان وليه لا يسمع ما أقول : فإني أقول لكم أنتم أهل المسجد : اتصلوا بوليِّه ،
واطلبوا منه منعه ، فإن وافق على ذلك : فهو المطلوب ، وإن لم يوافق : فاتصلوا
بالجهات المسؤولة عن المساجد لمنعه ، فإن لم يكن هناك مسؤول عن المساجد : فلكم أن
تمنعوه ، وليكن هذا بواسطة الإمام ، أو المؤذن ؛ لأنهما أقرب مسؤول عن المسجد ؛
ولئلا تحصل الفوضى والنزاع بينكم وبين وليه ؛ لأنه إذا كان الأمر قد أتى من إمام
المسجد أو مؤذنه : كان أهون على الناس"
انتهى .
"فتاوى نور على الدرب" ( شريط 209 ، وجه : ب ) .
فعلى هذا ؛ يجوز لكم منع ذلك المؤذي من دخول المسجد ، إن لم يكف عن إيذاء المصلين
برفع صوته والتشويش عليهم .
والله أعلم