ما هي حقيقة الخلاف الذي وقع ما بين " علي " وزوجته رضي الله عنهما ، مع عمر ، وعائشة رضي الله عنهما ؟ .
الحمد لله.
أولاً:
لم يكن بين الصحابة خلاف في الاعتقاد ، بل ولا في منهج الاستدلال ، فهم خير القرون ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ، ولقد كانت علاقتهم بعضهم مع بعض أسمى ، وأعلى مما يكذب بضده الرافضة ، ومن أدل شيء على ذلك : ما بينهم من مصاهرة ، وما حصل من تسمية أبنائهم بأسماء الكبار العظماء من الصحابة الأجلاء .
فإذا انتقلنا إلى موضوع السؤال ، قلنا : لقد تزوج عمر بن الخطاب من ابنة علي بن أبي طالب وفاطمة ، وهي " أم كلثوم " ! ، وفي أسماء أبناء الحسين : أبو بكر ، وعمر ! ، فهذا هو الحال ، وما حصل من خلافٍ بين فاطمة رضي الله عنها ، وبين أبي بكر الصدِّيق : فإن الحق فيه مع أبي بكر رضي الله عنها ، فقد كانت تريد فاطمة رضي الله عنها أن ترث من أبيها ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرها أبو بكر أن الأنبياء لا يورثون ، وهكذا سمع هو من النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس لأبي بكر حظ نفس في هذا ، فقد أغناه الله تعالى بالمال ، وقد منع فاطمة أن ترث ، كما منع ابنته عائشة – وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم – أن ترث هي كذلك ، فلم يكن له هوى في ذلك ، ولا كان بينه وبين فاطمة ما يجعله يولِّد العداء بينه وبينها ، وقد وقف علي رضي الله عنه بجانب زوجه فاطمة ؛ ليخفف عنها بوفاة والدها ، ويسليها في موقفها من العتب على أبي بكر في منعه إعطاءها من ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم ،
وقد امتنع عن الذهاب لأبي بكر رضي الله عنه لبيعته طيلة حياة فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي ستة أشهر ، لهذا السبب ، ولسبب آخر : وهو أنه رأى استعجال الصحابة في الخلافة والبيعة ، وأنه كان ينبغي أن يُشاور ، ويحضر في الأمر ، وكان رأي الصحابة على خلافه ، فلما ماتت فاطمة رضي الله عنها ، ودفنها : راجع نفسه ، وطلب حضور أبي بكر لبيته ، فحضر فأخبره عذره في التأخر عن البيعة ، ثم أصرَّ أبو بكر على صحة موقفه من منع ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، فاطمأن قلب علي رضي الله عنه ، وتواعدا على البيعة في اليوم نفسه ظهراً ، وبايعه ، ففرح المسلمون فرحاً عظيماً .
هذا ملخص ما جرى ، وقد روى هذا البخاري ومسلم ، ولم يكن علي رضي الله عنه نازعاً يده من طاعة أبي بكر ، ولا شاقّاً عصا المسلمين ، وليس شرطاً في صحة بيعة الخليفة أن يبايعه كل المسلمين .
وهذا نص الحديث كاملاً بحروفه :
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ ، وَ " فَدَكٍ " ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ " خَيْبَرَ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ ) وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا ، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ ، فَهَجَرَتْهُ ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ : اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ ، وَمُبَايَعَتَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الْأَشْهُرَ ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ " أَنْ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ " - كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ - فَقَالَ عُمَرُ : " لَا وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي ؛ وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ : " إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا " ، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي ، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ : فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا ، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَالُوا : أَصَبْتَ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ .رواه البخاري (3998) ومسلم (1759) .
وهذه وقفات مع الحديث من كلام أهل العلم :
أ. قال النووي – رحمه الله - :
أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة : فقد ذكره علي في هذا الحديث ، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ، ومع هذا : فتأخره ليس بقادح في البيعة ، ولا فيه ، أما البيعة : فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ، ولا كل أهل الحل والعقد ، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء ، والرؤساء ، ووجوه الناس ، وأما عدم القدح فيه : فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ، ويبايعه ، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له ، وأن لا يظهر خلافاً ، ولا يشق لعصا ، وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته ، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً ، ولا شق العصا ، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث ، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره ، فلم يَجب عليه الحضور لذلك ، ولا لغيره ، فلما لم يجب : لم يحضر ، وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة ، ولا مخالفة ، ولكن بقي في نفسه عتب ، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب ، وكان سبب العتب : أنه مع وجاهته ، وفضيلته في نفسه في كل شيء ، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك : رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته ، وحضوره ، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً ؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ، ونزاع ، تترتب عليه مفاسد عظيمة ، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة ؛ لكونها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه ، أو كفنه ، أو غسله ، أو الصلاة عليه ، أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء ." شرح مسلم " (12 / 77 ، 78) .
ب. وليس معنى هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكرٍ رضي الله عنه الهجران المحرَّم ، فهي أجنبية عنه أصلاً .
قال بدر الدين العيني – رحمه الله - :
معنى هجرانها : انقباضها عن لقائه ، وعدم الانبساط ، لا الهجران المحرَّم مِن ترك السلام ، ونحوه . " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " (17 / 258) .
وقال – رحمه الله - :
قال المهلب : إنما كان هجرها انقباضاً عن لقائه ، وترك مواصلته ، وليس هذا من الهجران المحرم ، وأما المحرَّم من ذلك : أن يلتقيا ، فلا يسلم أحدهما على صاحبه ، ولم يَروِ أحدٌ أنهما التقيا وامتنعا من التسليم ، ولو فعلا ذلك : لم يكونا متهاجريْن ، إلا أن تكون النفوس مظهرة للعداوة ، والهجران ، وإنما لازمت بيتها ، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران . " عمدة القاري " (15 / 20) .
ج. وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة ، لشغله بها ، وتمريضها ، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم ؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث : رأى على أن يوافقها في الانقطاع عنه ." فتح الباري " (7 / 494) .
هـ. وقال – رحمه الله – أيضاً - :
قوله " كراهية ليحضر عمر " في رواية الأكثر : " لمحضر عمر " ، والسبب في ذلك : ما ألِفوه من قوة عمر ، وصلابته ، في القول ، والفعل ، وكان أبو بكر رقيقاً ، ليِّناً ، فكأنهم خشوا من حضور عمر كثرة المعاتبة التي قد تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة ." فتح الباري " (7 / 494) .
و. وقال – رحمه الله -
قوله " ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك " بفتح الفاء من ننفس ، أي : لم نحسدك على الخلافة .
وقوله " استبددت " أي : لم تشاورنا ، والمراد بالأمر : الخلافة .
ز. قوله " لقرابتنا " أي : لأجل قرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " أي : لنا في هذا الأمر . " فتح الباري " (7 / 494) .
هذا ما جرى بين فاطمة وأبي بكر ، وعلي وأبي بكر ، رضي الله عنهم جميعاً ، ومن يسمع ويقرأ للرافضة ير عجباً ، وكذباً ، فها هو علي يعتذر لأبي بكر ، ويعظمه ، ويعترف له بالخلافة ، ويبايعه على رؤوس الأشهاد ، وقد سبق من أبي بكر زيارة علي في بيته ، والثناء عليه ، وعلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته ، وتفضيلهم على قرابته هو ، فأين الحقد ، واللعن ، والتقية ، والخبث ، والسوء ، والبغض ؟! إنه لا وجود له إلا في عقول وقلوب شيعة المجوس ، وحلفاء هولاكو ، وإخوان العلقمي ، وهذه الرواية أصح الروايات في المسألة ، وقد اتفق على إخراجها البخاري ومسلم رحمهما الله ، ولسنا نخفي شيئاً من ديننا ، وقد نقلنا فيها عدم رغبة علي رضي الله عنه أن يأتي مع أبي بكر أحد ، ولم تُخف عائشة – أو غيرها – أنه لعله المقصود به عمر رضي الله عنه ، وقد وافق أبو بكر رضي الله عنه على هذا ، ورأى أنه أمر لا ضير فيه ، ولا مخافة من ورائه .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
قال القرطبي : " مَن تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ، ومن الاعتذار ، وما تضمن ذلك من الإنصاف : عَرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر ، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام ، والمحبة ، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً ، لكن الديانة ترد ذلك ، والله الموفق " .
وقد تمسك الرافضة بتأخر علي عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة ، وهذيانهم في ذلك مشهور ، وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم . " فتح الباري " (7 / 495) .
والله أعلم