الحمد لله.
القطِران : طلاء يُستخرج من حرق الحطب ، وكانت العرب تستعمله لطلاء ماشيتها ؛ حمايةً لها من البَرد ، والحشرات ، ودواءً لها من الجرَب ، كما يُستعمل في طلاء الآنية ، ويسمَّى " القار " و " الزفت " ، وقد جاء النهي عن الانتباذ في الآنية التي تُطلى به ؛ لما يكون معه تغير الطعم بسببه ، وقد يصل لحد الإسكار ، . ومعنى الانتباذ : أن يوضع الزبيب ، أو التمر – مثلاً - في الماء ، في ذلك الإناء ، ويشرب نقيعه ، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة باسم " المُقيَّر " و " المُزفَّت " .
عَنْ أَبِى جَمْرَةَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنَّ لِي جَرَّةً يُنْتَبَذُ لِي نَبِيذٌ ، فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا فِي جَرٍّ إِنْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ ، فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ ، فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ فَقَالَ : قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لهم : ( وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : مَا انْتُبِذَ فِى الدُّبَّاءِ ، وَالنَّقِيرِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ – وفي رواية ( والمُقيَّر ) - ) .
رواه البخاري ( 53 ) ومسلم ( 17 ) .
الحنتم : الجرار الخضر المدهونة أو المصنوعة من الخزف .
الدباء : القرع – اليقطين – إذا يبس اتخذ وعاء .
المزفت : الإناء المطلى بالزفت
النقير : أصل النخلة ينقر وسطه ويجوف فيتخذ منه وعاء .
قال النووي – رحمه الله - :
وأما المُقَيَّر : فهو المزفَّت ، وهو المطلي بالقار ، وهو الزفت ، وقيل : الزفت نوع من القار ، والصحيح : الأول ؛ فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : المزفَّت هو المقيَّر .
" شرح مسلم " ( 1 / 185 ) .
وقال – رحمه الله - :
وأما معنى النهى عن هذه الأربع : فهو أنه نهى عن الانتباذ فيها ، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر ، أو زبيب ، أو نحوهما ؛ ليحلو ، ويُشرب ، وإنما خُصت هذه بالنهى لأنَّه يسرع إليه الإسكار فيها ، فيصير حراماً نجساً ، وتبطل ماليته ، فنهى عنه ؛ لما فيه من إتلاف المال ، ولأنه ربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه .
" شرح مسلم " ( 1 / 185 ) .
ثم صحَّ نسخ هذا النهي إلى الإباحة ، على قول جمهور أهل العلم ، على أن ينتبه المنتبذ أن لا يصل النبيذ إلى درجة الإسكار بطول المكث .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلاَّ فِي سِقَاءٍ ، فَاشْرَبُوا فِي الأَسْقِيَةِ كُلِّهَا ، وَلاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا ) . رواه مسلم ( 977 ) .
وفي لفظ : ( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ وَإِيَّاكُمْ وَكُلَّ مُسْكِرٍ ) .
رواه النسائي ( 5654 ) وابن ماجه ( 3405 ) ، وصححه الألباني في " صحيح النسائي " .
قال النووي – رحمه الله - :
ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر ، ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية ، فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً ) رواه مسلم في الصحيح .
هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخاً : هو مذهبنا ، ومذهب جماهير العلماء ، قال الخطابي : القول بالنسخ هو أصح الأقاويل ، قال : وقال قوم : التحريم باقٍ ، وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية ، ذهب إليه مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو مروي عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم .
" شرح مسلم " ( 1 / 185 ، 186 ) .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
وسر المسألة : أن النَّهي عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع ، إذِ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها . وقيل : بل النهي عنها لصلابتها ، وأن الشراب يُسكر فيها ، ولا يُعلم به ، بخلاف الظروف غير المزفَّتة ، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر : انشقت ، فيُعلم بأنه مسكر ، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ في الحجارة ، والصُّفر : أولى بالتحريم ، وعلى الأول : لا يحرم ، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها كإسراعه في الأربعة المذكورة ، وعلى كلا العِلَّتين : فهو من باب سدِّ الذريعة ، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سدّاً لذريعة الشِّركِ ، فلما استقر التوحيدُ في نفوسهم ، وقويَ عندهم : أذِن في زيارتِها ، غير أن لا يقولوا هُجراً ، وهكذا قد يقال في الانتباذ في هذه الأوعية : أنه فطمهم عن المسكر ، وأوعيته ، وسدَّ الذريعة إليه ؛ إذ كانوا حديثي عهدٍ بشربه ، فلمَّا استقر تحريمُه عندهم ، واطمأنت إليه نفوسُهم : أباح لهم الأوعية كُلَّها ، غير أن لا يشربوا مسكراً ، فهذا فِقه المسألة ، وسِرُّها .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 3 / 607 ) .
وبما سبق يُعرف الجواب عن مسألتك الأولى ، وأنه لا حرج عليكم من الشرب من آنية طليت بالقطران ، على أن تنتبهوا حين يكون الشراب نبيذاً يطول مكثه ، أو ما يشبهه من العصائر التي يمكن تخمرها .
ولا علاقة للقطران بالجن ، ولا بالملائكة ، ولم نقف على شيء من المنع من استعمال تلك الآنية لغير ما سبق ذِكره ، ثم جاء النص بالإباحة ، والذي نعتقده أن ما ذكرته إنما هو من اعتقادات العامة المبنية على الجهل والخرافة .
والله أعلم