الحمد لله.
ينبغي على المسلم أن يعرف فقه الدعاء من جهتين :
1- من جهة نفسه وما كُلِّف أن يستحضر في قلبه : فيكون دائم الطمع في كرم الله ، مستحضرا سعة خزائنه وعظيم فضله ، مستبشرا بما وعد عباده الصالحين من إجابة سؤلهم ومنحهم رغائبهم ، فيستعين بذلك قلبه على الثقة بالله ، والإيمان بما أخبر عن نفسه من إجابة دعوة الداعي ، فينطلق قلبه بالدعاء الصادق المخلص ، ولا يثنيه تأخر الإجابة ولا يستبطئها ، وبهذا يمتثل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
2- أما الجهة الثانية فهي دخول الدعاء في منظومة أقدار الله وحِكَمه في هذا الكون العظيم ، فلله في خلقه وأمره من الحكمة البالغة ما تقتضي أن يقدر من الأحداث ما يكرهه البشر ، كالفقر والمرض والحروب والكوارث وغير ذلك ، وقد لا يُقَدِّر الرب عز وجل أن يكون الدعاء المعيَّن سببا مباشرا لدفع هذه الشرور ، ولكنه – لوعده المؤمنين بإجابة الدعاء – يدخر ذلك عنده أجرا ومثوبة في الآخرة ، أو يصرف به شرا آخر عن الداعي ، فلن يكون الدعاء دائما سببا في تغيير القدر ، وإلا لفسدت الأرض ، ولَما تحققت حكمة الله تعالى في مفردات أقداره في هذا الكون العظيم ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذا نكثر ، قال : الله أكثر) رواه أحمد (3/18) ، والترمذي (3573) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
وقد وجدنا للعلامة ابن الجوزي رحمه الله خواطر دقيقة محكمة ، يشرح فيها هذا المعنى الذي نريد تقريره ، كي لا يخطئ أحد في فهم حقيقة إجابة الدعاء ، فيتسخط إن لم يلق من الله الإجابة المباشرة لسؤاله ، أو يظن أن الكون رهن إشارة دعائه ، وأن الله عز وجل سيرفعه أعلى من منزلة الأنبياء الذين ابتلوا وعذبوا وتأخرت عنهم الإجابة .
يقول رحمه الله :
"رأيت من البلاء العجاب ، أن المؤمن يدعو فلا يجاب ، فيكرر الدعاء وتطول المدة ، ولا يرى أثراً للإجابة ، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي احتاج إلى الصبر . وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب . ولقد عرض لي من هذا الجنس ، فإنه نزلت بي نازلة ، فدعوت وبالغت ، فلم أر الإجابة ، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده ، فتارة يقول : الكرم واسع والبخل معدوم ، فما فائدة تأخير الجواب ؟ فقلت : اخسأ يا لعين ، فما أحتاج إلى تقاضي ، ولا أرضاك وكيلاً . ثم عدت إلى نفسي فقلت : إياك ومساكنة وسوسته ، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدِّر في محاربة العدو لكفى في الحكمة . قالت : فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة ؟
فقلت : قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك ، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء ، فلا وجه للاعتراض عليه .
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة ، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه ، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب ، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة ، فلعل هذا من ذاك .
والثالث : أنه قد يكون التأخير مصلحة ، والاستعجال مضرة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي) .
والرابع : أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك ، فربما يكون في مأكولك شبهة ، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة ، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه . فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود .
والخامس : أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب ، فربما كان في حصوله زيادة إثم ، أو تأخير عن مرتبة خير ، فكان المنع أصلح . وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو ، فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أسرت ، وإن أسرت تنصرت .
والسادس : أنه ربما كان فَقْدُ ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ ، وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول . وهذا الظاهر ، بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ . فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه ، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه ، يستغيثون به ، فهذا من النعم في طي البلاء . وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه ، فأما ما يقيمك بين يديه ، ففيه جمالك ...
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك من رفع خلل ، أو اعتذار من زلل ، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب " انتهى .
"صيد الخاطر" (ص/20-21) .
وقال أيضا :
"يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء ، فهو يبالغ في الدعاء ولا يرى أثراً للإجابة ، ولا يتغير أمله ورجاؤه ولو قويت أسباب اليأس ، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح ، أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان ، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره ، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء ، فأما من يريد تعجيل الإجابة ويتذمر إن لم تتعجل فذاك ضعيف الإيمان ، يرى أن له حقاً في الإجابة ، وكأنه يتقاضى أجرة عمله ، أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام ، بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لا يتغير ، فلما ضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله ، وقال : (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتيني بهمْ جَميعاً) ، وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول والمؤمنين إلا بعد طول البلاء وقرب اليأس من الفرج ، ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل ، قيل له : وما يستعجل ؟ قال : يقول : دعوت فلم يستجب لي) ، فإياك أن تستطيل زمان البلاء ، وتضجر من كثرة الدعاء ، فإنك مبتلى بالبلاء ، مُتَعَبَّد بالصبر والدعاء ، ولا تيأس من روح الله ، وإن طال البلاء" انتهى .
"صيد الخاطر" (ص/168) .
وقد سبق في جواب السؤال رقم : (126946) نقل آخر عن ابن الجوزي فراجعه فهو مفيد .
فحاصل ما نريد الوصول إليه : هو أن المؤمن مطالب ببذل الأسباب ، ومنها : الدعاء الصادق ، كما هو مطالب أيضا بالتسليم للأقدار ، والإيمان بأن حكمة الله عز وجل قد تقتضي تأخير إجابة دعائه في الدنيا أو عدم ذلك ، فلن يكون أحدنا أفضل من أنبياء الله ورسله الذين تأخر عنهم تحقيق سؤلهم ودعائهم ، ولكنهم عرفوا أن الدعاء عبادة ، وأنهم بسؤالهم الرب عز وجل يرتقون عنده في درجات العابدين ، مع القطع بأن الله تعالى سيجيبهم ، ولكن هذه الإجابة لا يلزم أن تكون بإعطائهم ما سألوا في الدنيا ، بل قد تكون الإجابة بصرف شيء من السوء عنهم ، أو بادخار ذلك لهم في الآخرة .
والله أعلم .