هل يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟

18-10-2009

السؤال 135586

أنا مهتم جدا بتعلم الإسلام ، لذلك قمت مؤخرا بالبدء في قراءة صحيح البخاري للحديث ، وقد لاحظت أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث قد شرع لنا أن نفعل بعض الأشياء الصادرة عن حكمه هو ، وليست وحيا من الله تعالى . على سبيل المثال : أذكر الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) (رواه البخاري، 887 ومسلم 252). أرجو أن تشرحوا لي إمكانية ذلك ، ونحن نعلم أن كل شيء يصدر عن رسول الله صلى الله علي وسلم ( أمر ، أو إجازة ، أو تحريم ) إنما يكون وحيا من الله .

الجواب

الحمد لله.

أولا :

بداية نشكر لك حرصك على تعلم الإسلام والتفقه فيه ، فالعلم نور يضيء للعقل الطريق ، ويفتح للقلب آفاقا من المعرفة بالله عز وجل ، يهتدي بها إلى الحق الذي ينجيه بين يديه سبحانه وتعالى .

ونحن نرجو أن يسلك كل الناس هذا المسلك الذي أنت عليه ، مسلك التدبر والتفكر ، ثم السؤال عما يرد على أذهانهم من مسائل وإشكالات ، ولو تثبت كل عاقل مما يقرأ أو يسمع دفع عن نفسه وعن الناس الجهالة والغواية .

ثانيا :

بخصوص ما سألت عنه ، نقول :

يقسم العلماء ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال إلى قسمين :

القسم الأول : أقوال وأفعال صادرة بتوقيف من الوحي ، وَبِأَمْرٍ من الرب سبحانه وتعالى ، يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها مبلغا ناقلا أمينا ، يأمر بما أمر الله به ، ويمتثل ما أوحي إليه من ربه عز وجل . وهذا القسم هو الغالب على أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم .

القسم الثاني : أقوال وأفعال صادرة عن رأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده ، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيها مبلغا ولا ناقلا ، وإنما مشرِّعًا مجتهدا ، بناء على ما خوله الله عز وجل من التشريع والحكم بين الناس ، والله عز وجل يقره على ذلك ، إلا في بعض الحالات التي كان في اجتهاده صلى الله عليه وسلم شيء من الخطأ ، فحينئذ ينزل الوحي من عند الله عز وجل بتصويب ذلك ، وبهذا تبقى العصمة التامة لجميع ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم :

إذا كان مبلغا لما أوحى الله إليه : فالعصمة حاصلة ابتداء .

وإذا كان مجتهدا في حكمه صلى الله عليه وسلم : فالعصمة حاصلة انتهاء .

قال الشاطبي رحمه الله :

" الحديث إما وحي من الله صرف ، وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة .

وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، وإذا فُرِّعَ على القول بجواز الخطأ في حقه ، فلا يُقَرُّ عليه البتة ، فلا بد من الرجوع إلى الصواب ، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه " انتهى.

" الموافقات " (4/335)

وقال الشوكاني رحمه الله :

" يجوز – الاجتهاد - لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء ، وإليه ذهب الجمهور ، واحتجوا :

1- بأن الله سبحانه خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم كما خاطب عباده ، وضرب له الأمثال ، وأمره بالتدبر والاعتبار ، وهو أجل المتفكرين في آيات الله ، وأعظم المعتبرين .

وأما قوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) فالمراد به القرآن ؛ لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ، ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان متعبدا بالاجتهاد وبالوحي لم يكن نطقا عن الهوى ، بل عن الوحي .

2- وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضا للخطأ ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.

3- ويدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم )، فعاتبه على ما وقع منه ، ولو كان بالوحي لم يعاتبه .

4- ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) أي : لو علمت أولا ما علمت آخرا ما فعلت ذلك ، ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وسلم بالوحي .

6- وأمثال ذلك كثيرة : كمعاتبته صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض ) الأنفال/67، وكما في معاتبته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) الأحزاب/37.

إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز .

والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل ، وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ، ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها " انتهى، مختصرا.

" إرشاد الفحول " (427-429)

وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله :

" الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه ، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم ، وكأسره لأسارى بدر [ وأخذ الفداء منهم ] ، وكأمره بترك تأبير النخل ، وكقوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت...) الحديث. .إلى غير ذلك .

وأن معنى قوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) لا إشكال فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ، ولا يتكلم بالهوى ، وقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله ، لا بهوى ، ولا بكذب ، ولا افتراء ، والعلم عند الله تعالى " انتهى.

" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (ص/224)، وانظر: " مذكرة أصول الفقه " (ص/60)

ثالثا :

فإذا تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما صدر عنه القول أو الفعل عن رأي منه واجتهاد ، ثم يقره الوحي عليه فيسكت عنه أو يؤيده ، ونادرا ما كان الوحي يأتي بتصويبه – إذا تبين ذلك فهمنا وجه قوله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم...) ، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ـ أَوْ عَلَى النَّاسِ ـ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ ) رواه البخاري (887)، ومسلم (252)

قال الإمام النووي رحمه الله :

" فيه دليل على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى ، وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، وأصحاب الأصول ، وهو الصحيح المختار " انتهى.

" شرح مسلم " (3/144)

وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله :

" امتناعه صلى الله عليه وسلم من الأمر لهم لمعنى المشقة ، أي لولا المشقة لأمرهم به ، هذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم الآمر بالأحكام وإيجابها ، وأن ذلك مصروف إلى اجتهاده ، ولولا ذلك لم يمنعه الإشفاق على أمته من أن يوجب عليهم السواك لأجل المشقة " انتهى.

" المنتقى شرح الموطأ " (1/130)

على أن ثمة توجيها آخر لهذا الحديث لا نحتاج معه تقرير جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله – في معرض ذكر فوائد هذا الحديث - :

" فيه جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نص ، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره ، فلو كان الحكم متوقفا على النص ، لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص ، لا وجود المشقة .

قال ابن دقيق العيد : وفيه بحث .

وهو كما قال ، ووجهه أنه يجوز أن يكون إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة ، فيكون معنى قوله : ( لأمرتهم ) أي : عن الله بأنه واجب " انتهى.

" فتح الباري " (2/376)

والله أعلم .

أصول الفقه
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب