أرجو منكم أن تفتوني مشكورين في هذه الحالات. شخص ما نذر طاعة يعملها في كل مرة يعمل فيها معصية معينة (شرب الخمر مثلا) حتى يردع نفسه عنها وكان يتصور أنه قد يخطئ مرات فيكون في طاعته تلك دواء له ولكنه أسرف على نفسه بحيث أن عمره لن يفي بقضائها. فما حكمه في هذه الحالة؟ هل اذا شغل المسلم وقته بالعبادة بصورة لا تمنعه من مواصلة الدراسة ولكنها لا تجعله متفوقا فيها. هل يثاب على ذلك ويكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ماذا لو كان نذره يلزمه بذلك ؟ إذا تعارض نذري مع طاعة والدي فماذا أختار؟ إذا رأيت أن تدرجي في التزامي بهذا النذر هو أصلح لي فهل يجوز لي إتباع ذلك الأسلوب؟
الحمد لله.
أولا :
شرب الخمر محرم تحريما شديدا ؛ لما في الخمر من الخبث والضرر والمفسدة ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) المائدة/90، 91.
وَبَّين النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر ملعون شاربها ومن يعين عليها ، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود (3674) وابن ماجه (3380) عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ ). وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وفي سنن النسائي ( 5570 ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لا يَشْرَبُ الْخَمْرَ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَلاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 709 ) .
فالواجب الإقلاع عن شرب الخمر وتركها ابتغاء مرضاة الله وحذرا من عقابه .
ثانيا :
إذا نذر المسلم طاعة لله تعالى معلقة على فعله معصيةً ما ، ثم وقع في تلك المعصية ، فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه يخير بين فعل الطاعة أو إخراج كفارة يمين .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (11/180) : إذا أخرج النذر مخرج اليمين بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحث به على شيء مثل أن يقول إن كلمت زيدا فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة فهذا يمين حكمة أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين . انتهى
وعلى هذا فإما أن تخرج كفارة يمين ، إما أن تفعل الطاعة التي نذرت فعلها .
ثالثا :
ينبغي لمن كان في دراسة أن يجتهد فيها وأن لا يبخس نفسه بالتقصير والتفريط ، وليس هذا من الإلهاء عن ذكر الله ، بل من باب ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ).
لكن إن كان النذر يقتضي انشغاله بعبادة معينة ، وذلك لا يفسد دراسته ولا يعطله عنها بل يؤدي إلى عدم تفوقه فيها ، فليعمل بنذره ، تقديما للواجب على غيره .
رابعا :
تلزم طاعة الوالدين في غير المعصية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ) رواه البخاري (7257) ومسلم (1840)، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) رواه أحمد (1098) .
فإن تعارض ذلك مع فعل واجب كالنذر ، ولم يمكن الجمع بينهما ، قُدّم الواجب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الاختيارات" ص 114 : " ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية ، وإن كانا فاسقين ... وهذا فيما فيه منفعة لهما ، ولا ضرر عليه ، فإن شق عليه ولم يضره وجب ، وإلا فلا " انتهى .
والله أعلم .