الحمد لله.
لا يبدو أن في هذا الدعاء حرجا ، ولا يظهر في معناه محذور ، إن شاء الله ، فمحبة المؤمنين والصالحين من العبادات التي يتعبد بها المسلم لله رب العالمين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ ) رواه أحمد في " المسند " (35/229) عن أبي ذر رضي الله عنه ، وحسنه لغيره المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة.
فإذا تقرب العبد المسلم إلى الله بحبه للإسلام والمسلمين ، ومودته للصالحين ، فقد تقرب إلى الله بأمر مشروع ، وإذا قال في دعائه : ( فاجعل اللهم حبي لِمَن أطاعك شفاعةً تُقبل لِمَن عصاك ) فهذا يعني أنه يتوسل إليه سبحانه بعمل صالح يقرب إليه ، ويسأل الله أن يجعل حبه للصالحين شفاعة له في مغفرة ذنوبه ، والله سبحانه وتعالى يقبل شفاعة الأعمال الصالحة لبعض عباده المذنبين .
لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الأدعية والأوراد التي ينبغي تداولها وحفظها ومراعاتها : هي الأدعية المأثورة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ما ورد عن أصحابه الكرام ، وأما ما يختاره ويدعو به شيخ أو إمام مسجد : فهذا ينبغي التأني في قبوله , ومتابعته عليه حتى يتم الوقوف على صحة معناه ، واستقامته مع أصول الشرع ، ثم مع ذلك : لا يتخذ وردا ثابتا ، بل يكون مما يسوغ الدعاء به أحيانا ، دون التزام ولا أمر به .
وثم تنبيه آخر هنا ، وهو أنه من باب الغرور والأماني : أن يعتمد العبد على مجرد ذلك ، ويعجبه من نفسه أنه يقر بعلم الله أنه عاص ، وأن يتعلق بما ذكره من محبة الطائعين ، وهذا وحده غير كاف بالمرة ، بل يخشى على صاحبه أن يكون من المغترين ؛ فما بهذا أمر العاصي ؛ إنما أمر العاصي بالتوبة والإنابة إلى الله ، وأن يفر إلى ربه من المعصية إلى الطاعة . قال الله تعالى : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء/123-124.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" أي : لَيْسَ الأمر والنجاة والتزكية بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ، والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل ، المقترن بها دعوى مجردة ، لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر ، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية ؟!
فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ، وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى .
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام ، لكمال العدل والإنصاف ، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان ، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه ، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها . ولهذا قال تعالى : مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وهذا شامل لجميع العاملين ، لأن السوء شامل لأي ذنب كان من صغائر الذنوب وكبائرها ، وشامل أيضا لكل جزاء ، قليل أو كثير ، دنيوي أو أخروي .
والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله ، فمستقل ومستكثر ؛ فمن كان عمله كله سوءا ، وذلك لا يكون إلا كافرا ، فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم .
ومن كان عمله صالحا ، وهو مستقيم في غالب أحواله ، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار ، فما يصيبه من الهم والغم والأذى وبعض الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك : فإنها مكفرات للذنوب ، وهي مما يجزى به على عمله ، قيضها الله لطفا بعباده ، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة .
وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، كما دلت على ذلك النصوص ...
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية ، ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن ، صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى . ولهذا قال : مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وهذا شرط لجميع الأعمال ، لا تكون صالحة ولا تقبل ، ولا يترتب عليها الثواب ، ولا يندفع بها العقاب ، إلا بالإيمان " انتهى .
"تفسير السعدي" (205) .
والله أعلم .