الحمد لله.
أولاً:
مثل هذه الرؤيا لا يثبت بها الدَّين ، لأنها ليست حجة شرعية ، ولكن لا حرج من الاستئناس بها ، والعمل بها ، ففي ذلك إحسان من الورثة إلى ميتهم ، والأخذ بالأحوط له .
وقد رؤي ثابت بن قيس رضي الله عنه في المنام بعد موته ، وأوصى بأشياء ، فنفذ أبو بكر رضي الله عنه وصيته ، وذلك لأنه قامت قرائن على صحة تلك الرؤيا .
روى الحاكم أن ثابت بن قيس رضي الله عنه استشهد يوم اليمامة ، فلما استشهد، رآه رجل: فقال: إني لما قتلت، انتزع درعي رجل من المسلمين، وخبأه، فأكب عليه برمة [هي : القِدْر] ، وجعل عليها رَحْلاً [الرحل للبعير كالسرج للفرس] .
فائت الأمير، فأخبره، وإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، وإذا أتيت المدينة، فقل لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم : إن علي من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان عتيق، وإياك
أن تقول: هذا حلم، فتضيعه، فأتاه، فأخبره الخبر، فنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعد ما مات أنفذت وصيته غير ثابت بن قيس رضي الله عنه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وتصح الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها ، إقراراً كانت أو إنشاءً ، لقصة ثابت بن قيس التي نفذها الصديق رضي الله عنه " انتهى .
"الاختيارات " ص 273 .
فإذا عمل الورثة بمثل هذه الرؤيا ، فهو خير للميت بكل حال ، فإما أن يُقضى عنه الدين - إن كانت الرؤيا حقاً - وإما أن يكون صدقة عنه ، فينتفع به إن شاء الله .
قال الدكتور خالد بن بكر بن إبراهيم آل عابد وفقه الله :
"لو رُؤيَ شخص بعد موته يوصي هل تنفذ وصيته ؟ .
لم أقف على نص واضح في المسألة لكن ومن خلال النظر في أصول الشريعة وقواعدها العامة ومن خلال أقوال العلماء في العمل بالرؤى أقول مستعينا بالله :
إن هذه الوصية لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يوصي بفعل برٍّ ، كبناء مسجد ، أو التصدق ، وما أشبه ذلك .
الحالة الثانية : أن يوصي بفعل واجب عليه ، كقضاء ديْن ، أو أداء أمانة ، أو رد عارية ، أو
أداء زكاة ، أو حج ، وما أشبه ذلك مما لم يعلمه الورثة ولم تقم عليه بيِّنة .
فالحالة الأولى : إن رضي الورثة بإنفاذها : فلا إشكال عندئذٍ ، فهي كالصدقة لمورثهم ، وإنفاذها لا يقدح في قواعد الشريعة الكلية ، ولا يخالف أصلاً ، فيعمل بالرؤيا استئناساً ، ولا مانع منه .
أما إذا لم يرض الورثة : فيحرُم إنفاذ الوصية ؛ لأنه عندئذٍ يؤدِّي إلى مخالفة قواعد الشريعة والنصوص الشرعية ، وبيانه :
أن الملك يزول بالموت ، والأصل : أنه لا يحق للإنسان التصرف في ماله بعد موته ؛ لانتقال
الملكية إلى الورثة ، إلا أن الله منَّ على المؤمن فجعل له الحق بأن يوصي بثلث ماله وينفذ تصرفه فيه بعد موته صدقة منه عز وجل ، وبعد الموت يفوت هذا الحق ، فالإلزام بإنفاذ الوصية التي رؤيت في النوم : ينافي ما تقرر في الشريعة من أنه لا ينفذ تصرف الإنسان فيما لا يملك ، ومخالف لمقتضى آيات وأحاديث المواريث التي قسمت التركة على الورثة ، ولم تجعل لغيرهم نصيباً فيها .
أما الحالة الثانية : فيما لو أوصى بواجب عليه ، كما لو رؤي في المنام يقول : لفلان بن فلان عليَّ ألفٌ فاقضوه ، أو له أمانة كذا وكذا فأدوه ، أو عارية كذا فردوها ، ثم بعد التحقق وجد الأمر كما ذكر ، فالذي يظهر لي : أنه يلزم إنفاذها ؛ لدلالة القرائن على ذلك ، ولأن هذا من الحقوق المتعلقة بذمة الميت فيجب أداؤها عنه ، بل هي مقدَّمة على الإرث ، ولا يقال : إن هذا فيه إثبات للحكم الشرعي بالرؤيا إذا احتفت بالقرائن لأنا نقول : إن وجوب قضاء الدَّيْن وأداء الأمانة ورد العارية ونحوها : ثابت بأصل الشرع ، والرؤيا لما احتفت بالقرائن أظهرت هذا الحكم ، فلم يعمل هنا بمجرد الرؤيا بل بما احتفت بها من القرائن ، وهي معتبرة شرعاً في إثبات الأحكام" انتهى .
بحث بعنوان : " الرؤى الصادقة ، حجيتها وضوابطها " ( ص 36 ، 37 ) ، وقد نشر في " مجلة جامعة أم القرى " ، ج ١٩ ، ع ٤٢ ، رمضان ١٤٢٨ هـ .
ثانياً:
إذا كان صاحب الحق قد توفي ، ولم تجدوا أحداً من ورثته تدفعون إليه المال ، فإنكم تتصدقون بهذا المال عن صاحبه ، وبهذا تبرأ ذمة والدكم من هذا المال ـ إن كانت الرؤيا حقاً .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"وإن كان قد مات - أي : صاحب الحق - : فإنه يوصله إلى ورثته ؛ لأن المال بعد الموت ينتقل إلى الورثة ، فلابدَّ أن يسلِّمه للورثة ، فإن لم يعلمهم بأن جهلهم ولم يدر عنهم : تصدق به عنهم ، والله تعالى يعلمهم ، ويعطيهم حقهم" انتهى .
" شرح رياض الصالحين " ( 2 / 509 ، 510 ) .
والله أعلم .