الحمد لله.
أولاً:
ابن تيمية :
هو شيخ الإسلام أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني .
ولد يوم الاثنين ، عاشر – وقيل : ثاني عشر - من ربيع الأول سنة 661هـ ، في حرّان .
قال تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله عنه : " ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل ، والزهد والورع ، والشجاعة والكرم ، والتواضع والحلم والإنابة ، والجلالة والمهابة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسائر أنواع الجهاد ، مع الصدق والعفة والصيانة ، وحسن القصد والإخلاص ، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه ، وكثرة المراقبة له ، وشدة التمسك بالأثر ، والدعاء إلى الله ، وحسن الأخلاق ، ونفع الخلق والإحسان إليهم ، والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له ، وسائر أنواع الخير" انتهى .
امتحن الشيخ مرات ، فأوذي ، ودخل السجن عدة مرات بسبب حسد الأقران .
وفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة ( 728 هـ ) توفي شيخ الإسلام بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها .
ثانياً:
ابن حزم :
هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف الفارسي الأصل ، ثم الأندلسي القرطبي .
ولد بـ " قرطبة " لآخر يوم من رمضان ، في سنة أربع وثمانين وثلاث مائة .
نشأ في تنعم ورفاهية ، وكان والده وزيراً من كبراء أهل قرطبة ، وكذلك وزر أبو محمد في أول حياته.
قال أبو عبدالله الحميدي : " كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه ، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة ، متفنناً في علوم جمة ، عاملاً بعلمه ، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء ، وسرعة الحفظ ، وكرم النفس ، والتدين ، وكان له في الأدب والشعر نفسٌ واسع ، وباع طويل ، وما رأيت مَن يقول الشعر على البديهة أسرع منه " .
ومن أشهر كتبه : "المحلَّى" و "الإحكام لأصول الأحكام" و "الفِصَل في الملل والأهواء والنَّحَل" .
توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان ، سنة ست وخمسين وأربع مائة .
ثالثاً :
ابن عبد البر :
هو الحافظ يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم ، أبو عمر النَّمَري القرطبي الأندلسي .
ولد ابن عبد البر بـ " قرطبة " يوم الجمعة ، في ربيع الآخر ، سنة ثمان وستين وثلاثمائة .
نشأ ابن عبد البر في أسرة علمية ، فأبوه وجده كانا من العلماء ، ونشأ في مدينة معروفة بالعلم وكثرة العلماء ، كانت يومئذٍ عاصمة الأندلس .
سمع ابن عبد البر من كثير من علماء الأندلس ، وأخذ عنهم شتى العلوم .
قال الذهبي رحمه الله : " وكان في أصول الديانة على مذهب السلف ، لم يدخل في علم الكلام ، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله " .
وقال الحميدي : " أبو عمر ، فقيه حافظ ، مكثر ، عالم بالقراءات وبالخلاف في الفقه ، وبعلوم الحديث والرجال ، قديم السماع كثير الشيوخ " .
أشهر مؤلفاته : " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " و " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " و " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله " .
توفي يوم الجمعة ، في ربيع الآخر ، سنة ثلاث وستين وأربعمائة من الهجرة بمدينة " شاطبة " في شرق الأندلس .
رابعاً :
تلك هي تراجم مختصرة لأولئك الأعلام الثلاثة ، وأما تأثر شيخ الإسلام ابن تيمية بابن حزم ، فلم نجد في ترجمة شيخ الإسلام ما يدل على ذلك ، بل يلفت نظر الباحث أمران :
الأول : انتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية لابن حزم – رحمهما الله – في جوانب كثيرة ، من أهمها :
أ. اعتقاده في صفات الله تعالى الذي خالف فيه أهل السنَّة .
ب. مبالغته في التمسك بالظاهر في مسائل الفقه مع نفي القياس الجلي وعدم النظر إلى المعاني .
ج. شدته أحياناً على المخالفين له في الرأي ، وتسفيه آرائهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"لكن قد خالط ـ يعني ابن حزم ـ من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك ، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى ، وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له .. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر ، والإسراف في نفي المعاني ، ودعوى متابعة الظواهر" انتهى .
" مجموع الفتاوى " ( 4 / 19 ) .
وللأسف فدعوى بعض الظاهريين المعاصرين أن شيخ الإسلام ابن تيمية تأثر بابن حزم غير صحيحة ، بل بالغ بعضهم فقال : " لولا ابن حزم ما راح ابن تيمية ولا جاء " ! وهؤلاء كتموا كلام شيخ الإسلام السابق نقله عنه في انتقاد ابن حزم ، فنقلوا ما قبله ، وما بعده ، مع أنه في موضع واحد ، وفي الصفحة نفسها ، وإنصافاً لابن حزم سنذكره بعد قليل ، وهو يدل على عدل شيخ الإسلام رحمه الله في حكمه على الآخرين .
الثاني : الثناء على ابن حزم في سعة اطلاعه ، وتمسكه بالنصوص ، وتمييزه بين الحديث الصحيح والضعيف ، وفي مخالفته للمرجئة والأشاعرة في معظم مسائل "الإيمان" ، وفي "القدَر" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وإن كان " أبو محمد بن حزم " في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره ... .
وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر ؛ ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال ، والمعرفة بالأحوال ، والتعظيم لدعائم الإسلام ، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره ، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح ، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء .
" مجموع الفتاوى " ( 4 / 19 ، 20 ) .
وشيخ الإسلام ابن تيمية بحر من بحور العلم ، وقد كان واسع القراءة والاطلاع ، ومن ضمن ذلك اطلاعه على كتب ابن حزم رحمه الله ، ولا مانع أن يكون قد استفاد مما فيها من العلم ، ومما يدل على أنه قرأها : نقده لما فيها من أخطاء ، واستدراكه على اعتقاد ابن حزم ومنهجه في الفقه ، وتعقبه في الحديث ومسائل الإجماع وغيرها ، وهذا لا يكون إلا ممن نظر واطلع على تلك المصنفات لذلك الإمام ، لكنه لم يكتسب صفاته في شدته على أئمة الهدى ، ولم يعتقد ما يعتقده ابن حزم في الصفات وغيرها مما خالف فيه أهل السنَّة ، ولم يقل بقوله في " نفي القياس " ، فأين ذلك التأثر المزعوم .
وقد زعم بعض الكتَّاب أن ابن تيمية تأثر بحدة ابن حزم رحمه الله ! وهذا أيضاً غير صحيح ، فابن حزم كان حادّاً على رؤوس أهل السنَّة وأئمتها ، وأما شيخ الإسلام فهو يجلهم ويعظمهم ، وما كان منه من حدَّة فهي على رؤوس بعض أهل البدع والضلال .
خامساً :
أما تأثر ابن حزم بابن عبد البر : فبينهما من العلاقة ما يجعل ابنَ حزم مستفيداً من ابن عبد البر ، وكيف لا وهو من شيوخه ، ويبدو أن التأثير العلمي والأدبي هو الأبرز في هذه العلاقة ، ويبدو ذلك من خلال أمور :
أ. تلقى ابن حزم عن ابن عبد البر علم الحديث .
ب. صاحبه في الأخذ عن شيوخه كذلك أمثال : ابن الفرضي وابن الجسور ، ولذا كان يطلق عليه – أحياناً – لفظة " صاحبنا " .
ج. روى عن ابن عبد البر في مواضع عدة من كتبه بلفظ السماع مرة ، وبلفظ الإجازة مرة أخرى .
قال القاضي عياض رحمه الله في ترجمة ابن عبد البر :
وسمع منه أبو محمد ابن حزم .
" ترتيب المدارك وتقريب المسالك " ( 8 / 128 ) .
د. كان ابن حزم يذكر ابن عبد البر في مصنفاته ، ويطلق عليه صفة : " الإمامة " و " الاجتهاد ".
هـ . كان يذكر بعض كتب ابن عبد البر ويثني عليها في مصنفاته .
ومن ذلك قوله – وهو يسرد كتب علماء الأندلس - :
ومنها : كتاب " التمهيد " لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر ، وهو الآن في الحياة ، لم يبلغ سن الشيخوخة ، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً ، فكيف أحسن منه .
ومنها : كتاب " الاستذكار " ، وهو اختصار التمهيد المذكور .
ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثل لها :
منها : كتابه المسمى بـ " الكافي " في الفقه على مذهب مالك وأصحابه ، خمسة عشر كتاباً اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوَّبه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه.
ومنها : كتابه في الصحابة سمَّاه كتاب " الاستيعاب " في أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة رضي الله عنهم والتعريف بهم وتلخيص أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم ، على حروف المعجم ، اثنا عشر جزءاً ، ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك.
" رسائل ابن حزم " ( 2 / 179 ، 180 ) بعنوان " في فضل الأندلس وذكر رجالها " .
قال الدكتور ليث سعود جاسم وفقه الله :
أما طبيعة العلاقة بين ابن حزم وابن عبد البر : فقد كانت علاقة تلمذة وصداقة , فقد تلقّى ابن حزم عن ابن عبد البر علمَ الحديث , وصاحَبه في الأخذ عن شيوخه كذلك ، أمثال : ابن الفرضي وابن الجَسور , ولو تصفّحنا كتاب " الأحكام في أصول الأحكام " لابن حزم لوجدنا أنّه يروي عن ابن عبد البر في مواضع عدة من الكتاب , بلفظ السماع مرة , وبلفظ الإجازة مرة أخرى .
وقد توهّم البعض في أنَّ ابن عبد البر كان تلميذاً لابن حزم , ولعلّ ذلك سبب شهرة ابن حزم التي نالها لعلمه , فضلاً عن الظروف السياسيةِ التي مر بها , والمناظرات الحادة التي ناظر بها علماء عصره , ولكن بتتبـّع ما كتبه ابن عبد البر من الكتب المطبوعة , وبعض ما وقعت عليه من المخطوط لم أجد إشارة تشير إلى أنه قد نقل عن ابن حزم أو رَوى عنه .
ثم إن ابن حزم يَذكر ابن عبد البر في بعض رسائله , ويُضفي عليه صفة الإمامة والاجتهاد . " وحسبك بأبي محمد مثنياً " , وكان من أقرانه , وجرت بينهما مناظرات ومنافرات , ومع ذلك فيروي عنه بالإجازة ، وكان يثني على مؤلفات ابن عبد البر , وقد قدّم لنا ابن حزم في رسالته " فضل الأندلس " قائمة بهذه المؤلفات القيمة .
ويبدو أنه لم يتعرّض لابن عبد البر بلفظ شديد أو جارح ، على ما عُرف عنه ابن حزم , على الرغم من أنَّ ابن عبد البر قد ردّ على ابن حزمٍ في كتابه " التمهيد " ، و " الاستذكار " ، لكن هذه الردود كانت تلميحاً وليست تصريحاً ، ومع هذا الاختلاف في الرأي : فإن ابن عبد البر كان " ينبسط لابن حزم ، ويأنس به " .
" ابن عبد البر الأندلسي وجهوده في التاريخ " ( ص 148 ، 149 ) .
والله أعلم