الحمد لله.
أولا : تخريج الأثر عن الإمام الشافعي رحمه الله
هذه القصة يرويها مكرم بن أحمد في كتابه " مناقب أبي حنيفة " - كما في رواية القاضي أبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري للكتاب (ص/94)، وعنه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) - فيقول مكرم بن أحمد :
ثنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم ، قال ثنا علي بن ميمون ، قال سمعت الشافعي يقول :
( إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين ، وجئت إلى قبره ، وسألت الله الحاجة ، فما تبعد عني حتى تقضى )
ثانيا : الحكم على إسناده
في هذا الإسناد مطاعن عدة :
الأول : كتاب مكرم بن أحمد اتهمه الدارقطني باشتماله على الوضع والكذب بسبب أحد شيوخه ، واسمه أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني .
قال الخطيب البغدادي رحمه الله :
" حدثني أبو القاسم الأزهري ، قال : سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني - وأنا أسمع - عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبى حنيفة فقال : موضوع ، كله كذب ، وضعه أحمد بن المغلس الحماني قرابة جبارة ، وكان في الشرقية " انتهى.
" تاريخ بغداد " (4/209)، وانظر ترجمة : أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني في " لسان الميزان " (1/269) ، وينظر أيضا : تعليق العلامة المعلمي على كلام الدارقطني في: " التنكيل " (1/59) .
الثاني : عمر بن إسحاق بن إبراهيم : لم نقف له على ترجمة .
الثالث : علي بن ميمون : إن كان هو الرقي فهو ثقة كما قال أبو حاتم ، ولكننا لم نقف على من أثبت له سماعا عن الشافعي رحمه الله .
ثالثا : أقوال أهل العلم في هذا الأثر
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه :
مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال : ( إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب ) أو كلاما هذا معناه .
وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل :
فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا .
وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين ، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء ، فما باله لم يَتَوَخَّ الدعاء إلا عنده .
ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم ، لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره .
ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها.
وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه " انتهى باختصار.
" اقتضاء الصراط المستقيم " (2/692)
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله :
" والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر " انتهى.
" إغاثة اللهفان " (1/246)
ويقول العلامة المعلمي رحمه الله :
" مَن عُمَرُ هذا – يعني عمر بن إسحاق بن إبراهيم الراوي للأثر - ، ومَن شيخُه ، أمُوَثَّقان هما عند الخطيب كما زعم الكوثري ؟!
أما أنا فقد فتشت " تاريخ بغداد " فلم أجد فيه ، لا موثقين ولا غير موثقين ، بل ولا وجدتهما في غيره .
نعم في غيره علي بن ميمون الرقي يروي عن بعض مشايخ الشافعي ونحوهم ، وهو موثق ، لكن لا نعرف له رواية عن الشافعي ، وقد راجعت " توالي التأسيس " لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي فلم أجد فيهم علي بن ميمون ، لا الرقي ولا غيره ، انظر "توالي التأسيس" (ص/81)
هذا حال السند ، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء ، ويؤكد ذلك حال القصة ، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة ، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضاً ، إنما يعرف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة ، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد " انتهى.
" التنكيل " (1/60)
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله :
" فهذه رواية ضعيفة بل باطلة ، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف ، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال .
ويحتمل أن يكون هو عمرو - بفتح العين - بن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي ، وقد ترجمه الخطيب ، وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة 341هـ ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، فهو مجهول الحال .
ويبعد أن يكون هو هذا ، إذ إن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة 247هـ على أكثر الأقوال ، فبين وفاتَيهما نحو مائة سنة ، فيبعد أن يكون قد أدركه .
وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل " انتهى.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/22)
وفي "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2/680-710) مبحث طويل في حكم قصد الدعاء عند قبر معين تبركا به ، خلاصته الحكم ببدعية هذا الفعل وعدم شرعيته ، وقد سبق ذكر ذلك في موقعنا في جواب السؤال رقم : (105370)
والله أعلم .