الحمد لله.
ثانياً:
الواجب على العامي ، أو طالب العلم الذي لم يتأهل للنظر أن يرجع في أمر دينه ،
والنوازل التي تواجهه ، إلى أهل العلم الثقات ، فيسألهم ، ويصدر عن كلامهم . قال
الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأنبياء/43-44 .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل ؛
فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث ، وفي ضمنه تعديل لأهل
العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة ، فدل على أن
الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله ... " انتهى من "تفسير السعدي" (441).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" واجتهاد العامة هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم "
انتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
والرجوع إلى المواقع العلمية الموثوقة ، والتي يقوم عليها من تثق فيه من أهل العلم
: هو نوع من ذلك الرجوع إلى أهل العلم ، واستفتائهم .
غير أنه في الواقع لا يغني عن الرجوع المباشر إلى أهل العلم الثقات الذين يمكنك
الوصول إليهم ، والتعلم منهم ، ومناقشتهم بصورة مباشرة فيما ينزل بك ، أو تستشكله .
وهذا كله ـ بالطبع ـ بحسب استطاعة كل إنسان ، وما تسمح به ظروف بلده ، وقد قال الله
تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/16 .
ثالثاً:
في حالة عدم وجود الحكم في مسألة ما عند من تستفيته في دينك ممن ترضى دينه وعلمه :
فإنه لا حرج في الانتقال إلى مفتٍ آخر يتصف بمواصفات المفتي الأول الذي ارتضيت دينه
وعلمه – فيما ترى وتعلم عنه - ، وإنما المحظور هو أن يكون الانتقال لمجرد الهوى
والبحث عن الرخصة ؛ فإن هذا فعل محرَّم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"مَن التزم مذهباً معيَّناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ، ولا
استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ، ومِن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله : فإنه يكون
متبعاً لهواه ، وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد ، فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي ،
فهذا منكر" .انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 220 ) .
رابعاً:
الأصل في المقلِّد أن لا يتحول عن إمامه الذي يقلده إلا إن كان ثمة عذر له في ذلك ،
كأن تكون المسألة لم يتطرق لها عالمه – كما سبق قريباً - ، أو يكون رأى غيره أعلم
منه في هذه المسألة تحديداً ، فمثل هذا يكون معذوراً في البحث عن الفتوى عند عالمٍ
آخر غير الذي يقلده في الأصل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين : إما لرجحان دليله - بحسب تمييزه - ، وإما
لكون قائله أعلم وأورع : فله ذلك وإن خالف قوله المذهب" .انتهى من" مجموع الفتاوى "
( 33 / 168 ) .
وقال – رحمه الله - :
"وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني ، مثل أن يتبين رجحان قول على قول
، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله : فهو مثاب على ذلك ؛، بل
واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ولا يتبع أحداً
في مخالفة الله ورسوله ؛ فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في
كل حال ..." .انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 223 ) .
خامساً:
إن العالِم الشرعي الذي يكون أهلاً لأن يُستفتى لا يكون كذلك وهو يجهل واقع ما
يُفتي به ؛ فإن العلم بالواقع من شروط الفتوى ، وقد سبق النقل في ذلك عن ابن القيم
رحمه الله في جواب السؤال رقم (138348
) فليُنظر .
فإذا كان قصد السائل هو ما فهمنا عنه : فليس عليه ملامة ولا حرج ، وأما إن كان يقصد
بـ " فقه الواقع " من يشتغل بمتابعة الأخبار السياسية ويحللها ويناظر فيها : فهذه
الأمور لا تؤهل صاحبها للحكم في مسائل الشرع إن كان خالياً من العلم الشرعي ،
فالعلم بالأخبار العالمية السبق فيه للمتفرغ لمتابعتها ، والتحليل السياسي يحسنه
الكفار كما يحسنه المسلمون ، فليس هذا مما يجعل العالم بذلك الواقع مؤهلا للإفتاء ،
وليس لك أن تقدمه على غيره من أهل العلم الثقات ، وإن هؤلاء العلماء الثقات يتورعون
عن القول فيما لا يعرفونه ، فإما تكون منهم إحالة على شخص بعينه أو هيئة بعينها ،
أو تختار أنت غيره لكن بما ذكرناه من الشروط وهو أن يكون في ظنك أكثر علماً وأكثر
ديانة .
سادساً:
إذا كان العالِم الذي تتبع فتواه وتأخذ منه العلم له مصنفات ، أو علم منقول محفوظ ،
أو أشرطة مسجلة : فلا فرق أن يكون على قيد الحياة أو ميتاً ، ولا حاجة إلى إعادة
استفتاء عالم آخر حي في نفس النازلة . قال ابن النجار رحمه الله :
" "وَلَهُ" أَيْ وَلِلْعَامِّيِّ "تَقْلِيدُ" مُجْتَهِدٍ "مَيِّتٍ" كَتَقْلِيدِ
حَيٍّ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ بَاقٍ فِي الإِجْمَاعِ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ . وَفِيهِ يَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ : الْمَذَاهِبُ لا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا. " انْتَهَى من " شرح
الكوكب المنير" (4/513) .
وأما إذا لم يكن له شيء من ذلك ، أو احتجت لمسألة لم تجدها عنده في كتاب ولم تسمعها
منه من قبل : فكيف سيكون طريق معرفتك لحكم الله إلا بسؤال عالِم تثق بدينه وعلمه
ممن هو على قيد الحياة ، فتسأله ، فيجيبك .
وهنا نؤكد للأخ السائل – ولغيره – ليس في دين الله تعالى ما يوجب عليك اتباع عالمٍ
بعينه ، بل كل من تسمع منه حكم الله في مسألة ، وترى أنه يصلح للفتوى : فخذ بقوله
إذا كان عندك من أهل العلم والدين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
"وإذا نزلت بالمسلم نازلة : فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي
مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول
، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم
في كل ما يوجبه ويخبر به ، بل كل أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته : إنما هو مما يسوغ
له ليس هو مما يجب على كل أحد ، إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ، بل كل أحد
عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور ويترك
المحظور" .انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 208 ، 209 ) .
سابعاً:
إذا انتقلت إلى عالِم حيٍّ ، وصرت تأخذ منه الفتوى : فلا تُعِدْ مسائلك التي أخذتها
من الأول على هذا الثاني ، إلا بالشروط التي ذكرناها سابقاً ، وهو أنك ترى أن هذا
الثاني أعلم من الأول ، فإن كنت تراه أعلم عموماً فلك إعادة المسائل التي أخذتها عن
الأول عليه ، وإن كنت تراه أعلم في جوانب معينة – كالمعاملات الاقتصادية – فلا تعد
إلا المسائل من هذا الجنس دون غيرها . وهكذا تشرع الإعادة إذا وقعت في الصدر حزازة
وتردد من فتوى الأول .
والمهم في كل ما سبق أن لا يكون إعادة المسائل على الآخر ، والانتقال إليه دافعه
الهوى وتتبع الرخص ، وإنما لعذر ولما تراه أنه أعلم وأوثق .
والله أعلم