الحمد لله.
وقد روى البخاري (1010) عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَقَالَ : " اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا
فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " قَالَ
: فَيُسْقَوْنَ .
فلو كان طلب الشفاعة والتوسل بالأموات جائزا لما عدل الصحابة رضي الله عنهم عن
التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به إلى العباس رضي الله عنه .
وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين قديما وحديثا ، لا خلاف بينهم فيه ، إنما
يخالف فيه من لا يعتد بخلافه من أهل البدع .
ومن المنقول عن أهل العلم في ذلك :
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" لَيْسَ فِي الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ حَاجَةُ الْحَيِّ إلَى الْمَيِّتِ وَلَا
مَسْأَلَتُهُ وَلَا تَوَسُّلُهُ بِهِ ؛ بَلْ فِيهَا مَنْفَعَةُ الْحَيِّ
لِلْمَيِّتِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ هَذَا بِدُعَاءِ
هَذَا وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَيُثِيبُ هَذَا عَلَى عَمَلِهِ " انتهى . "مجموع
الفتاوى" (27 / 71)
وقال أيضا رحمه الله :
" وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا مثل
دعائهم مريم وغيرها وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله لم يبعث به أحد من
الأنبياء " انتهى .
"الجواب الصحيح" (5 / 187)
وقال أيضا :
" الثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ : اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ
اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا ، فَهَذَا أَيْضًا
لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي
لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ، فلَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ
يُطْلَبَ مِنْ الْأَمْوَاتِ لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : " السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ
السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ " ثُمَّ
يَنْصَرِفُ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ نُقِلَ عَنْهُمْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَإِذَا أَرَادُوا الدُّعَاءَ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ
اللَّهَ تَعَالَى لَا يَدْعُونَ مُسْتَقْبِلِي الْحُجْرَةِ .
وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ
الرَّجُلَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ " انتهى
"مجموع الفتاوى" (1 / 351-352)
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" لا يجوز أن تطلب منه الشفاعة ولا غيرها كسائر الأموات ؛ لأن الميت لا يطلب منه
شيء وإنما يدعى له ويترحم عليه إذا كان مسلما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة .
فمن زار قبر الحسين أو الحسن أو غيرهما من المسلمين للدعاء لهم والترحم عليهم
والاستغفار لهم كما يفعل مع بقية قبور المسلمين - فهذا سنة ، أما زيارة القبور
لدعاء أهلها أو الاستعانة بهم أو طلبهم الشفاعة - فهذا من المنكرات ، بل من الشرك
الأكبر " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (6 / 367)
وقال :
" لا يجوز لأحد أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة ؛ لأنها ملك الله
سبحانه ، فلا تطلب إلا منه ، كما قال تعالى : ( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا
)
فتقول : " اللهم شفع في نبيك ، اللهم شفع في ملائكتك ، وعبادك المؤمنين ، اللهم شفع
في أفراطي " , ونحو ذلك . وأما الأموات فلا يطلب منهم شيء ، لا الشفاعة ولا غيرها ،
سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (16 / 105)
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
" ومن الشبه التي تعلقوا بها : قضية الشفاعة ؛ حيث يقولون : نحن لا نريد من
الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله ، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند
الله ؛ لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله ؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم .
والجواب : أن هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تسويغ ما هم عليه ، وقد
كفَّرهم الله ، وسمَّاهم مشركين ؛ كما في قوله تعالى : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِنْدَ اللَّهِ ) انتهى .
"الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد" (ص 70-71)
- أما تكليم النبي صلى الله عليه وسلم
لأهل القليب يوم بدر وسماعهم كلامه : فهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم في موقف
خاص ؛ إذلالا للكفر وأهله : أحياء وأمواتا .
قَالَ قَتَادَةُ : " أَحْيَاهُمْ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا
وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا " .
رواه البخاري (3976)
فلا يصح بل لا يجوز أن يقاس عليه سؤال الأموات الشفاعة عند ربهم والدعاء ، بل هذا
من أفسد قياس وأشأمه .
قال علماء اللجنة الدائمة :
" إذا مات الإنسان ذهب سمعه فلا يدرك أصوات من في الدنيا ولا يسمع حديثهم ، قال
الله تعالى : ( وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فأكد تعالى لرسوله
صلى الله عليه وسلم عدم سماع من يدعوهم إلى الإسلام بتشبيههم بالموتى ، والأصل في
المشبه به أنه أقوى من المشبه في الاتصاف بوجه الشبه ، وإذاً فالموتى أدخل في عدم
السماع وأولى بعدم الاستجابة من المعاندين الذين صموا آذانهم عن دعوة الرسول عليه
الصلاة والسلام وعموا عنها ، وقالوا : قلوبنا غلف ، وفي هذا يقول تعالى : (
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ
بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) .
وأما سماع قتلى الكفار الذين قبروا في القليب يوم بدر نداء رسول الله صلى الله عليه
وسلم إياهم وقوله لهم : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا
وقوله لأصحابه : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم حينما استنكروا نداءه أهل
القليب فذلك من خصوصياته التي خصه الله بها فاستثنيت من الأصل العام بالدليل ،
وهكذا سماع الميت قرع نعال مشيعي جنازته مستثنى من هذا الأصل ، وهكذا قوله صلى الله
عليه وسلم : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )
مستثنى من هذا الأصل " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1 /478-479)
فالأصل أن الميت لا يسمع ؛ لأنه مات ، فبطل سمعه وبصره وكلامه بذهاب روحه ، لكن
يستثنى من ذلك ما ورد الدليل الصحيح به دون غيره .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
ما هو الراجح في سماع الموتى ؟
فأجاب :
" الراجح ما جاءت به السنة ، وهذا ثابت وليس فيه إشكال كما في الحديث : ( إن
الإنسان إذا انصرف عنه أصحابه بعد دفنه يسمع قرع نعالهم ) وكما ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه وقف على القتلى في قليب بدر يؤنبهم ويوبخهم ، ولما قالوا : ( يا
رسول الله ! كيف تكلم هؤلاء ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) ومثلما جاء في
الحديث أيضا ً: ( ما من مسلم يسلم على قبر يعرفه في الدنيا إلا رد الله عليه روحه
فرد عليه السلام ) ، وإلا فالأصل أنهم لا يسمعون ؛ لأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم ،
لكن ما جاءت به السنة لابد من الإيمان به " انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (222 /25)
وقال رحمه الله أيضا :
" لكن على فرض أنهم يسمعون فإنهم لا ينفعون غيرهم ، بمعنى أنهم لا يدعون الله له ،
ولا يستغفرون الله له ، ولا يمكنهم الشفاعة لهم .
وإنما قلت ذلك لئلا يتعلق هؤلاء القبوريون بما قلت ، ويقولون : ما دام أنهم يسمعون
– إذاً - هذا من أولياء الله ، نسأله أن يسأل الله لنا ، أو أن يشفع لنا عند الله !
فهذا غير وارد أصلاً ؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ،
أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (87 /14)
والله أعلم .
راجع إجابة السؤال رقم : (6744)
، (21524) ، (112131)