الحمد لله.
ثانياً :
جاءت الأدلة الشرعية الصحيحة تستثني من تحريم الكذب بعض الصور والحالات ، ومن هذه
الأدلة :
حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي
خَيْرًا) رواه مسلم (2605) .
وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ
أَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ
الْحَرْبَ خَدْعَةٌ) رواه البخاري (3611) ومسلم (1066) .
ثالثاً :
استنبط العلماء من الأدلة السابقة ـ وغيرها ـ بعض الأحكام ، منها :
1- الكذب ليس محرماً لذاته ، بل لما يترتب عليه من المفاسد .
2- إذا كان الكذب سيؤدي إلى دفع مفسدة أعظم ، أو جلب مصلحة أكبر : صار جائزاً حينئذ
.
وينبغي عدم التهاون في شأن الكذب مع دعوى أنه لدفع مفسدة ، بل لا بد من الموازنة
الصحيحة ، بين المصالح والمفاسد .
3- من استطاع أن يستغني عن الكذب باستعمال التورية والمعاريض : فلا شك أنه أولى
وأفضل ، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل
عن الكذب) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/199) .
ومعنى المعاريض : أي الكلام الذي يظنه السامع شيئاً ويقصد المتكلم شيئاً آخر .
وهذه أقوال لبعض العلماء في تقرير هذه الأحكام .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ،
فإن أقلَّ درجاته أن يعتقد المخبَر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً ، وقد
يتعلق به ضرر غيره .
ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذوناً فيه ، وربما
كان واجباً .
فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد :
1- فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً : فالكذب فيه حرام .
2- وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك
القصد مباحاً .
3- وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في
الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود
الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب : فالكذب مباح إلا
أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى
إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة ، فيكون الكذب حراماً في
الأصل إلا لضرورة .
فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود
صحيح له أو لغيره .
كما لو أخذه ظالم ويسأله عن ماله : فله أن ينكره ، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة
بينه وبين الله تعالى ارتكبها : فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت ، وما سرقت ، وقال
صلى الله عليه وسلم : (من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) وذلك أن
إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً ، وعرضه
بـلسانه وإن كان كاذباً .
وكما لو سأله سر أخيه فله أن ينكره .
وكما لو أراد أن يصلح بين اثنين ، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة
أنها أحب إليه ، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال
تطييبا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد
فلا بأس به .
ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن
يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط .
فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن
كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد
فيهما ، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ؛ لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة ، فإن
شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم ، فيرجع إليه .
ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك
مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب ، فأما إذا تعلق بغرض
غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ
أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذوراً ، حتى إن المرأة
لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات ، وذلك حرام .
وقالت أسماء : سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة ،
وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل علي شيء فيه ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه .
وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو
أهم في الشرع من الصدق أم لا ، وذلك غامض جدا ، والحزم تركه ، إلا أن يصير واجباً
بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان .
وقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب ، قال عمر رضي الله عنه : أما في
المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب . وروي ذلك عن ابن عباس وغيره .
وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب ، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا
يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً ، ولكن التعريض أهون" انتهى باختصار من "إحياء
علوم الدين الغزالي" (3/136-139) .
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله :
"الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة , فيجوز تارة ويجب أخرى
، وله أمثلة :
أحدها : أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز .
وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته...- ثم ذكر صوراً
أخرى يجوز فيها الكذب ثم قال :–
التحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذوناً فيه" انتهى من " قواعد
الأحكام " (ص/112) .
وقال ابن حزم رحمه الله :
" ليس كل كذب معصية ، بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصي من تركه ،
صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي
خيراً) ، وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها ، وكذلك
الكذب في الحرب .
ثم نقل الإجماع على أن المسلم يجب عليه أن يكذب إذا سأله سلطان ظالم عن مكان مسلم
ليقتله ظلماً ، وأنه إن صدقه وأخبره بموضعه كان فاسقاً عاصياً" انتهى من " الفصل في
الملل " (4/5) .
رابعاً :
أما إخبار الطالب بخلاف درجته الحقيقية خوفاً من العين أو الحسد ، فليس ذلك ضرورة
تبيح الكذب ، والله عز وجل يدافع عن المؤمن ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا) الحج/38 .
فلا ينبغي للمسلم أن يملأ حياته بالخوف من الحاسدين أو العائنين .
وفي هذه الحالة ... إن استطاع أن يستعمل المعاريض في الكلام ، فله رخصة في ذلك ،
ولا حرج عليه .
وإن لم يستطع التعريض في الكلام فليصدق وليتوكل على الله تعالى وليعلم أن أحداً من
الخلق لن يضره إلا إذا كان ذلك مكتوباً عليه .
والله أعلم .