الحمد لله.
وروى أبو داود (1843) عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ
عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : " تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ "
ورواه مسلم (1411) عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا
وَهُوَ حَلَالٌ . قَالَ : وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وروى أحمد (26656) عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرَّسُولَ
بَيْنَهُمَا .
صححه ابن القيم في "الزاد" (3/373)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا ". انتهى
من"مجموع الفتاوى" (18 /73)
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ، هو الذي عليه أكثر الصحابة وجمهور أهل العلم : أن
النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها حلالا ، ولهم عن حديث ابن عباس
أجوبة ، أصحها أنه وهم منه رضي الله عنه ، حيث ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم
تزوجها وهو محرم .
قال ابن القيم رحمه الله :
" واختُلِفَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هل تزوَّج ميمونةَ حلالاً أو
حراماً ؟ فقال ابنُ عباس : تزوَّجها مُحْرِمَاً ، وقال أبو رافع : تزوَّجها حلالاً
، وكنتُ الرسولَ بينهما . وقولُ أبى رافع أرجح لعدة أوجه :
أحدها : أنه إذ ذاك كان رجلاً بالغاً ، وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم ،
بل كان له نحو العشر سنين ، فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه .
الثانى : أنه كان الرسولَ بين رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينها
، وعلى يده دارَ الحديثُ ، فهو أعلم به مِنه بلا شك ، وقد أشار بنفسه إلى هذا
إشارةَ متحقِّق له ، ومتيقِّن ، لم ينقله عن غيره ، بل باشره بنفسه .
الثالث : أن ابن عباس لم يكن معه في تلك العُمرة ، فإنها كانت عُمرةَ القضية ، وكان
ابنُ عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَذَرَهُمُ اللهُ مِن الوِلدان ، وإنما سمع
القِصَّة مِن غير حضور منه لها .
الرابع : أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة ، بدأ بالطواف بالبيت
، ثم سعى بينَ الصفا والمروة ، وحلق ، ثم حَلَّ .
ومن المعلوم : أنه لم يتزوج بها في طريقه ، ولا بدأ بالتزويج بها قبلَ الطواف
بالبيت ، ولا تزوَّج في حال طوافه ، هذا من المعلوم أنه لم يقع ، فصحَّ قولُ أبى
رافع يقيناً .
الخامس : أن الصحابة رضي عنهم غَلَّطُوا ابنَ عباس ، ولم يُغلِّطُوا أبا رافع .
السادس : أن قولَ أبى رافع موافِقٌ لنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن نِكاح المُحْرِمِ ، وقول ابن عباس يُخالفه ، وهو مستلزِم لأحد أمرين ، إما
لنسخه، وإما لتخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواز النِّكاحِ
محرماً ، وكلا الأمرين مخالِف للأصل ليس عليه دليل ، فلا يُقبل .
السابع : أن ابنَ أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تزوَّجها حلالاً قال : وكانت خالتي وخالة ابنِ عباس . ذكره مسلم ". انتهى
من"زاد المعاد" (5 /112-124)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قَالَ الْأَثْرَم : قُلْت لِأَحْمَد إِنَّ أَبَا ثَوْر يَقُول بِأَيِّ شَيْء
يَدْفَع حَدِيث اِبْن عَبَّاس - أَيْ مَعَ صِحَّته - قَالَ فَقَالَ : اللَّه
الْمُسْتَعَان ، اِبْن الْمُسَيِّب يَقُول : وَهَمَ اِبْن عَبَّاس ، وَمَيْمُونَة
تَقُول تَزَوَّجَنِي وَهُوَ حَلَال " . انتهى
وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ :
"الرِّوَايَة أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَال ، جَاءَتْ مِنْ طُرُق شَتَّى ،
وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس صَحِيح الْإِسْنَاد ، لَكِنَّ الْوَهْمَ إِلَى الْوَاحِد
أَقْرَب إِلَى الْوَهْم مِنْ الْجَمَاعَة ، فَأَقَلّ أَحْوَال الْخَبَرَيْنِ أَنْ
يَتَعَارَضَا فَتُطْلَب الْحُجَّة مِنْ غَيْرهمَا ، وَحَدِيث عُثْمَان صَحِيح فِي
مَنْعِ نِكَاح الْمُحْرِم ، فَهُوَ الْمُعْتَمَد " .انتهى
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" وميمونة أعلم بنفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن
عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا ، فكيف وقد كان صغيرا ولا يعرف حقائق
الأمور ولا يقف عليها . وقد أنكر عليه هذا القول ، وقال سعيد بن المسيب : وهم ابن
عباس ما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا حلالا . فكيف يعمل بحديث هذا حاله ؟
ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل :
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ". انتهى من"المغني" (3 /318)
والخلاصة :
أن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها في غير حال
الإحرام ، وهذا ثابت مقطوع به لولا حديث ابن عباس ، وقد رجح عامة أهل العلم أنه
أوهم في هذا الحديث ؛ حيث ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم ، وبنى
ذلك على قرائن لديه رضي الله عنه ، ومثل هذا لا يقاوم الخبر الثابت عن ميمونة وأبي
رافع رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال غير محرم .
والله تعالى أعلم .