كثيرا ما أسمع عبارة : " دفع الله ما كان أعظم "، أفيدونا بصحة هذه العبارة ، هل معناها أن الله قد غير القدر ، وكما أعرف هذا منافٍ للعقيدة ؟
الحمد لله.
هذه الجملة " دفع الله ما كان أعظم " تحتمل أمرين :
الأول : أن يكون ذلك على سبيل تسلية الإنسان لنفسه ، أو لغيره ، عند حلول مصيبة أو
بلاء به ؛ فيتذكر أن غيره قد نزل به من البلاء ما هو أعظم من ذلك ، وقد دفعه الله
عنه .
فإذا كان هذا هو المراد ، فهي تسلية حسنة مشروعة ؛ بل قد أمر الشرع بمثل ذلك عند
حلول البلاء أوالمصائب بالإنسان .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا
إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ ) .
رواه البخاري (6490) ومسلم (2963) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه :
" قَالَ اِبْن بَطَّال : هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ
الْمَرْءَ لَا يَكُون بِحَالٍ تَتَعَلَّق بِالدِّينِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ
مُجْتَهِدًا فِيهَا إِلَّا وَجَدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ , فَمَتَى طَلَبَتْ نَفْسُهُ
اللَّحَاقَ بِهِ اِسْتَقْصَرَ حَالَهُ فَيَكُون أَبَدًا فِي زِيَادَةٍ تُقَرِّبُهُ
مِنْ رَبّه , وَلَا يَكُون عَلَى حَال خَسِيسَةٍ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَجَدَ
مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ أَخَسُّ حَالًا مِنْهُ . فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ
عَلِمَ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دُونَ كَثِيرٍ مِمَّنْ فُضِّلَ
عَلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ , فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الشُّكْرَ
, فَيَعْظُمُ اِغْتِبَاطُهُ بِذَلِكَ فِي مَعَادِهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : فِي هَذَا الْحَدِيث دَوَاءُ الدَّاءِ لِأَنَّ الشَّخْص إِذَا
نَظَرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِيهِ
حَسَدًا , وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ لِيَكُونَ
ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الشُّكْر . وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَة عَمْرو بْن شُعَيْب
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ قَالَ " خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ
كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا : مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ
دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ , وَمَنْ نَظَرَ فِي
دِينه إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ " . وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ فِي
دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا
يُكْتَبُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا " انتهى .
لكن ينبغي الانتباه إلى أن بعض الناس قد يسلي نفسه
بمثل هذا الكلام على معنى أن الله صرف عنه من البلاء ما هو أعظم مما نزل به ، يعني
: أن بلاء آخر كان سينزل به ، فصرفه الله عنه ، وقدر عليه ذلك الأخف ؛ ومثل هذا هو
من أمور الغيب التي لا يعلمها أحد بفكر ولا نظر ، ولا تعلم إلا بوحي من الله ،
فينبغي إمساك اللسان ، والظنون عن مثل ذلك ، ورد الأمر إلى الله ، وتسلية النفس بما
هو مشروع .
الثاني : أن يكون ذلك على سبيل الدعاء : أن يصرف الله
عنه من البلاء ما هو أعظم مما رآه ، أو مما نزل به . والدعاء بصرف البلاء قبل نزوله
، ورفعه إذا نزل بالإنسان مشروع لا حرج فيه ؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : ( لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ، وَلاَ يَزِيدُ فِي العُمْرِ
إِلاَّ البِرُّ ) . رواه الترمذي (2139) وقال : حسن غريب . وحسن إسناده ابن مفلح في
"الآداب الشرعية" (1/410)، والشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/154).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال :
( إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، فَعَلَيْكُمْ
عِبَادَ اللهِ بِالدُّعَاءِ )
رواه الترمذي (3548) وضعفه ، وقال ابن حجر في "فتح الباري" (11/98): " في إسناده
لين " انتهى . وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " (3409) .
على أن الأولى بالعبد أن يسأل الله أن يدفع عنه البلاء
والشر كله ، فإنه لا يدري ما يكون صبره ويقينه عند ما ينزل به ، ولا يدري أي الأمور
يكون خيرا له .
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :
( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا
عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ،
عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، اللهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ
وَنَبِيُّكَ ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ
قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ
قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ تَقْضِيهِ لِي
خَيْرًا ) .
رواه أحمد (25019/ط الرسالة) وابن ماجة (3846) وصححه الألباني .
والله أعلم .