الحمد لله.
ثانياً:
المسألة التي جاءت في السؤال جوابها باختصار :
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هناك عذابا في القبر ، لكنه كان يراه على
غير المسلمين ، ولهذا لما ادَّعت يهودية أن المسلمين داخلون في هذا الوعيد كذَّبها
النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبر أن هذه الأمة ليس عليها عذاب في قبورها ، ثم أوحي
إليه صلى الله عليه وسلم في المدينة أن أمته تبتلى في قبورها ، وأن العذاب واقع في
قبورها على من شاء الله أن يعذَّب منهم ، وكانت عائشة رضي الله عنها قد نقلت تكذيب
النبي صلى الله عليه وسلم ليهودية زعمت وجود عذاب في قبور المسلمين ، ثم لم يخبرها
النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي الجديد عليه بشمول المسلمين لعذاب القبر ، فأنكرت
عذاب القبر عليهم مرة أخرى ليهوديتيْن أخبرتاها بذلك ، حتى أخبرها به صلى الله عليه
وسلم ، هذا تلخيص الأمر ، وليس فيه ما يُنكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر
بوقوع عذاب القبر على المسلمين بالوحي لا بقول اليهودية كما زعمه صاحب المقال .
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَهِيَ تَقُولُ
هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَالَتْ : فَارْتَاعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : ( إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ
) قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ
تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ ) قَالَتْ عَائِشَةُ : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ )
رواه مسلم ( 584 ) .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ( دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ
يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا : إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي
قُبُورِهِمْ ، قَالَتْ : فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا
فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتَا
عَلَيَّ فَزَعَمَتَا أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ ،
فَقَالَ : ( صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ )
قَالَتْ : فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلاَةٍ إِلاَّ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ ) رواه مسلم ( 586 ) .
" لم أُنعِم " أي : لم تطب نفسي أن أصدقهما .
قال النووي رحمه الله : " وفي الرواية الأخرى " دخلت عجوزان من عُجُز يهود المدينة
" ، وذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم صدَّقهما ، هذا محمول على أنهما قضيتان ،
فجَرت القضية الأولى ثم أُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ثم جاءت العجوزان
بعد ليال فكذبتهما عائشة رضي الله عنها ولم تكن علمت نزول الوحي بإثبات عذاب القبر
، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول العجوزين فقال : ( صدقتا ) ،
وأَعلمَ عائشةَ رضي الله عنها بأنه كان قد نزل الوحي بإثباته " انتهى من "شرح مسلم
للنووي" (5/86) .
وقد جاء هذا موضَّحاً - أيضاً - في رواية صحيحة عند
الإمام أحمد رحمه الله .
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَخْدُمُهَا فَلَا
تَصْنَعُ عَائِشَةُ إِلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ إِلَّا قَالَتْ لَهَا
الْيَهُودِيَّةُ وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ !! قَالَتْ فَدَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَلْ لِلْقَبْرِ عَذَابٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ ( لَا ؛ وَعَمَّ ذَاكَ
؟! ) قَالَتْ : هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ لَا نَصْنَعُ إِلَيْهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ
شَيْئًا إِلَّا قَالَتْ وَقَاكِ اللَّهُ عَذَابَ الْقَبْرِ !! قَالَ : ( كَذَبَتْ
يَهُودُ وَهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُذُبٌ لَا عَذَابَ دُونَ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ) قَالَتْ : ثُمَّ مَكَثَ بَعْدَ ذَاكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَمْكُثَ فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ نِصْفَ النَّهَارِ مُشْتَمِلًا بِثَوْبِهِ
مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ( أَيُّهَا النَّاسُ
أَظَلَّتْكُمْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ
تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا أَيُّهَا
النَّاسُ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ
حَقٌّ ) رواه أحمد في " مسنده" (41/66) وصححه المحققون .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما علِم
بحكم عذاب القبر إذ هو بالمدينة في آخر الأمر ...
فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين ، ثم
أُعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم فجزم به وحذَّر منه
وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وارشاداً ، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى "
انتهى من "فتح الباري" (3/236 ) .
وقال – أيضاً - رحمه الله : " وكلا الحديثين عن عائشة ، وحاصله : أنه لم يكن أوحى
إليه أن المؤمنين يُفتنون في القبور ، فقال : ( إنما يفتن يهود ) فجرى على ما كان
عنده من علم ذلك ، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه وعلَّمه وأمر
بإيقاعه في الصلاة ليكون أنجح في الإجابة ، والله أعلم " انتهى من "فتح الباري"
(11/176) .
ثالثاً:
والإيمان بعذاب القبر جزء من اعتقاد أهل السنَّة والجماعة .
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله : " ونؤمن بملَك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين
، وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه ،
على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضوان الله
عليهم , والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " انتهى من "شرح
الطحاوية" (ص 396 ) .
وأما من مات من الصحابة قبل أن يُوحى هذا الاعتقاد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فليس
بأعظم ممن مات منهم قبل الوحي بإيجاب الصلاة والصيام والزكاة والحج ، أو قبل الوحي
بتغيير القِبلة إلى البيت الحرام ، فالذي مات منهم رضي الله عنهم إنما يطالب بما
كان من الشرع في زمن حياته لا بما أوحي علمه ، أو شُرع بعد وفاته ، وهذا بدهي في
الشرع والعقل ، والوحي لا يزال ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالجديد في
الاعتقادات والشرائع حتى وفاته صلى الله عليه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 8829 ) لتقف
على طائفة من الأدلة في عذاب القبر .
والله أعلم