ما حكم الإصرار على البحث عن عمل في المدينة المنورة لما فيها من فضائل ؟
الحمد لله.
فضائل المدينة المنورة كثيرة جليلة ، ثبتت بها أدلة السنة الصحيحة ، منها حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَنَا فِي مَدِينَتِنَا ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ ،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا
عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا ) رواه مسلم (1374)
غير أن القاعدة الأثرية الواردة عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال هي أن
الأرض المقدسة لا تُقَدِّسُ أحدا ، إنما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُه .
وذلك فيما رواه الإمام مالك في " الموطأ " (4/1117) عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء
كتب إلى سلمان الفارسي : أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا
تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله .
والله عز وجل حين يحاسب الناس يوم القيامة لن يأمر بسكان مكة والمدينة وبيت المقدس
أن لا حساب عليهم ولا عذاب ، ولن يكتب لهم دخول الجنة بسكناهم أشرف البقاع ، ولكنه
عز وجل سائل الناس عن أعمالهم ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزلة/7-8.
أترى هل يستوي المسلم العامل المجتهد في عمله ، وعلمه ، وخلقه ، ودعوته ، وسعيه
بالمعروف بين الناس ، بذلك المعتزل المعتكف في مكة أو المدينة الذي آثر مجاورة
الأماكن المقدسة بالهدوء والدعة على الجهاد في سبيل الدعوة إلى الله ، وإصلاح
المجتمعات ، وتعليم الأخلاق ، ومحاربة الفساد والمفسدين ، ألم يقل النبي صلى الله
عليه وسلم : ( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيَصْبِرُ عَلَى
أَذَاهُمْ ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ ، وَلَا يَصْبِرُ
عَلَى أَذَاهُمْ ) رواه أحمد في " المسند " (9/64) طبعة مؤسسة الرسالة ، وصححه
المحققون . وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ
كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ) رواه مسلم (2948)
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" المراد بالهرج هنا : الفتنة ، واختلاط أمور الناس ، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن
الناس يغفلون عنها ، ويشتغلون عنها ، ولا يتفرغ لها إلا أفراد " انتهى من " شرح
مسلم " (18/88)
بل إن في سكنى مكة والمدينة خطرا عظيما ، وهو تعظيم المعصية في ذلك المكان ، حتى
كان بعض السلف الصالحين يتقون السكن في الحرم – خاصة المكي – خشية تغليظ العقوبة
على الذنب فيه ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الحج/25.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" كان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه ، منهم : ابن عباس
، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل ، وكان عبد الله
بن عمرو بن العاص يقول : الخطيئة فيه أعظم ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال : لأن أخطئ سبعين خطيئة - يعني بغير مكة - أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة
. وعن مجاهد قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وقال ابن جريح : بلغني
أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة ، والحسنة على نحو ذلك . وقال إسحاق بن منصور : قلت
لأحمد في شيء من الحديث : ( إن السيئة تكتب بأكثر من واحدة ) ؟ قال : لا ، ما سمعنا
إلا بمكة ، لتعظيم البلد ، ولو أن رجلا بعدن أبين هم بقتل الإنسان عند البيت أذاقه
الله من عذاب أليم " انتهى باختصار من " جامع العلوم والحكم " (352)
ومع ذلك نقول :
إذا لم تكن لدى المؤمن همة لجهاد الدعوة والإصلاح ونشر الفضائل بين الناس ، وكان
يخشى على نفسه ودينه الفتنة في غير المدينة المنورة ، ورأى أن صلاح قلبه وعمله في
ذلك المكان الطاهر المليء بالخير والصلاح والحمد لله – في هذه الأزمان – : شرع له
الحرص على الإقامة في ذلك المكان الطاهر ، ومجاورة الصالحين ، وقد جاء عن ابْنِ
عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ :
( مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا ، فَإِنِّي
أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا )
رواه الترمذي (3917) وقال : حسن صحيح غريب . وصححه الألباني في " صحيح الترمذي" .
والله أعلم .