حلف كاذبا ليأخذ صاحبه صدقته ولا يردها
فعلت شيئاً ولا أدري أكنت محقاً أم مخطئاً ؛ أعرف شخصاً بسيط الحال فقيراً فأحببت أن أعطيه صدقة ، ولكنه عزيز ولا يقبل الصدقة من أحد ولا يسأل أحداً أبداً ، لذلك فقد قمت بإرسال هذه الصدقة عن طريق البريد إليه ، وعزمت على أن لا أقول إني أنا المرسل مطلقاً.
فبعد أن وصلته جاء إليّ شاكّاً أني أنا من أرسل هذه الصدقة فسألني: أنت من أرسل هذه ؟ فقلت له لا ، علماً مني أن الكذب يجوز في ثلاث حالات، إحداها الإصلاح بين شخصين، فاجتهدت واعتبرت أن وضعي مندرج تحت هذه الحالة.
لو قلت له إنني أنا من أرسلها لجرحت مشاعره ، ولاضطر إلى ردها إلي وعدم قبولها، وأنا أعلم أنه في أشد الحاجة إليها ، لذلك كذبت وقلت أني لم أرسلها، بل إنه استحلفني فحلفت..!
فلا أدري هل فعلي هذا صحيح أم لا ؟ وهل اليمين التي حلفتها يمين غموس ؟ وماذا يجب عليّ أن أفعل الآن ؟ أرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله.
أولا :
ما قمت به من إرسال الصدقة لهذا الرجل ، وإخفائها ، والحرص على وصولها إليه ، عمل
طيب ، نسأل الله أن يجزيك عليه خير الجزاء ، لكنك أخطأت في الحلف الكاذب ، والواجب
أن تتوب إلى الله تعالى من ذلك ، وكان يسعك أن تستعمل التورية .
والتورية : أن يقول القائل كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع ولكن القائل يريد
معنى آخر يحتمله الكلام ، كأن تقول : ما أرسلت مالا لك ، وتقصد أنك لم ترسله قبل
شهر مثلا ، أو لم ترسله اليوم ، وهي جائزة إذا دعت الحاجة أو المصلحة الشرعية لها .
قال النووي رحمه الله : " قال العلماء : فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على
خداع المخاطب ، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب : فلا بأس بالتعريض ،
فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة : فهو مكروه وليس بحرام ، فإن توصل به إلى أخذ باطل
أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً ، وهذا ضابط الباب " انتهى من " الأذكار " ( ص 380 )
.
وينظر : سؤال رقم (27261) .
ثانيا :
رخص بعض أهل العلم في الكذب ، وفي الحلف كذبا للمصلحة الراجحة .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " ..فالمشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان
ولو كان صادقا ؛ لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب ، ومعلوم أن الكذب حرام ، وإذا
كان مع اليمين صار أشد تحريماً ، لكن لو دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة إلى الحلف
الكاذب فلا حرج في ذلك ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم كلثوم بنت
عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس الكذاب
الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيراً . قالت : ولم أسمعه يرخص في شيء مما
يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث : الإصلاح بين الناس ، والحرب ، وحديث الرجل امرأته
، وحديث المرأة زوجها ) رواه مسلم في الصحيح . فإذا قال في إصلاحٍ بين الناس :
والله إن أصحابك يحبون الصلح ، ويحبون أن تتفق الكلمة ، ويريدون كذا وكذا ، ثم أتى
الآخرين وقال لهم مثل ذلك ، ومقصده الخير والإصلاح : فلا بأس بذلك للحديث المذكور .
وهكذا لو رأى إنساناً يريد أن يقتل شخصاً ظلماً أو يظلمه في شيء آخر ، فقال له :
والله إنه أخي ، حتى يخلصه من هذا الظالم إذا كان يريد قتله بغير حق أو ضربه بغير
حق ، وهو يعلم أنه إذا قال : أخي تركه احتراما له : وجب عليه مثل هذا لمصلحة تخليص
أخيه من الظلم .
والمقصود : أن الأصل في الأيمان الكاذبة المنع والتحريم ، إلا إذا ترتب عليها مصلحة
كبرى أعظم من الكذب ، كما في الثلاث المذكورة في الحديث السابق " انتهى من "مجموع
فتاوى الشيخ ابن باز" (1 /54).
ولكن في التورية مندوحة ومخرج من الكذب ، كما سبق .
والله أعلم .