الحمد لله.
ثانيا :
قول المتنبي : " قضت الأيام " يسميه علماء اللغة " المجاز العقلي "، وتعريفه عندهم
هو : إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له .
يقول الدكتور فضل حسن عباس رحمه الله :
" توضيحا لهذه الجملة نقول :
إذا قلت : " سال الماء في الوادي "، " فاض الماء من الكأس "، " نبت البقل في فصل
الربيع "
قف أمام هذه الجمل واحدة واحدة ، تجد أن الإسناد في كل منهما إسناد حقيقي ، فهو
إسناد الفعل أو ما يشبهه لما هو له ، ألا ترى أن إسناد " سال " و " فاض " إلى الماء
إسناد حقيقي ؟ ، وإسناد النبت إلى البقل في فصل الربيع كذلك .
ولكن سعة اللغة وفن التعبير يكسبان الكلام زهوا وبهاء ، فيمكننا أن نقول " فاض
الكأس "، " سال الوادي "، " أنبت الربيع البقل "، " أشابتنا الهموم "
في هذه العبارات جميعا نجد أننا أسندنا الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له ،
فإن الكأس والوادي لم يسيلا ، ولكن سال الماء الذي فيهما ، ومن هنا كان المجاز ...
ولكي تتضح لك صورة هذا المجاز نذكر لك مزيدا من الأمثلة : قال تعالى : ( وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ )
غافر/36، وقال تعالى في شأن فرعون : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ ) القصص/4.
وإسناد البناء إلى هامان ، والتذبيح والاستحياء إلى فرعون إسناد مجازي علاقته
السببية ؛ لأن هامان سبب في البناء ، وهو المشرف عليه ، ولأن فرعون هو السبب في
التذبيح والاستيحاء ، والباني في الحقيقة العَمَلَة ، والمذبح والمستحيي هم الجنود
.
إن للمجاز العقلي في الكلام لشأنا عظيما ، ولذا فأنت تراه مرتكزا في طبائع الناس ،
يعبرون به وإن لم يعرفوا اسمه ، ألا تسمعهم يقولون : فلان أصلحه الزواج وغيَّره
المال ، وأنت نجَّتك أمانتك ، وفلان نفعته تقوى والديه ، وهذا رفعَه العِلْم ، وذاك
قتله طمعه ، وهذه أشقاها جمالها ، وتلك سما بها خلقها ، وعلَّمنا الاستعمار دروسا
لا ننساها ، ويقول بعضهم لبعض : منزلك عامر ، وسفرة دائمة ، إلى غير ذلك من
العبارات الكثيرة ، وكلها من المجاز العقلي كما ترى " انتهى من " البلاغة فنونها
وأفنانها " (ص/139-143)
والشاهد من هذا كله بيان أن المسلم العربي حين يقول : " قضت الأيام " فهو لا ينسب القضاء إلى الأيام على الحقيقة ، وإنما على المجاز العقلي ، والتقدير : قضى الله عز وجل في الأيام ، وليس في ذلك حرج شرعي .
ثالثا :
لهذا الأمر شواهد كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة ، ومن ذلك :
قوله تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ
شِيبًا ) المزمل/17، فتأمل كيف أسند إشابة الولدان إلى يوم القيامة ، مع أن المشيب
الحقيقي هو الله عز وجل .
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
" فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة ، اليوم المهيل أمره ، العظيم قدره
، الذي يشيب الولدان ، وتذوب له الجمادات العظام ، فتتفطر به السماء ، وتنتثر به
نجومها " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (ص/894)
وأيضا في قوله عز وجل : ( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ )
هود/84 ، أسند الإحاطة إلى اليوم ، مع أن المحيط هو عذاب الله ، وأما الزمان فلا
يحيط بنفسه .
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
" فجعل ( المحيط ) نعتًا لليوم ، وهو من نعت " العذاب "، إذ كان مفهومًا معناه ،
وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم : " بعْض جُبَّتك محترقة " انتهى من " جامع
البيان " (15/445)
وجاء في " تفسير الجلالين " (ص/297) :
" ( عذاب يوم محيط ) بكم يهلككم ، ووصف اليوم به مجاز لوقوعه فيه " انتهى.
رابعا :
تقريرنا للمجاز العقلي في هذا المقام يبين لك الفرق الدقيق بين استعمال المجاز
العقلي في مكانه المقبول لدى جميع المسلمين ، وبين الاحتجاج بالمجاز العقلي على صرف
العبادة لغير الله تعالى .
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي رحمه الله ( المتوفى سنة 1326هـ ) :
" تحقيق القول في ذلك الباب أنا لا ننكر المجاز العقلي ، ولكن لابد هناك من التفصيل
:
وهو أنه إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما يقدر عليه العبد لغير الله تعالى
يجب حمله على الحقيقة ، ولا يصح حمله على المجاز العقلي كما في الأمثلة المذكورة .
وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء مما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل فلان شفاني ،
وفلان رزقني ، وفلان وهب لي ولداً ، يجب حمله على المجاز العقلي .
ولكن لا مطلقاً ، بل متى لم يصدر من ذلك المتكلم شيء من الألفاظ والأعمال الكفرية
مما هو كفر بواح ، وشرك قراح .
وأما إذا صدر منه شيء من تلك الألفاظ والأعمال فلا يحمل كلامه على المجاز العقلي ،
إذ المؤمن بهذا اللفظ والعمل قد انسلخ من الإيمان فلم يبق مؤمناً ، فلا وجه لهذا
الحمل ، ولا ريب في أن عبدة الأنبياء والصالحين يصدر منهم من الألفاظ والأعمال ما
هو كفر صريح كالسجدة والطواف والنذر والنحر ونحو ذلك " انتهى من " صيانة الإنسان عن
وسوسة الشيخ دحلان " (ص/238)، وللتوسع في هذا الموضوع يمكن مراجعة : "جهود علماء
الحنفية في إبطال عقائد القبورية" (2/1021-1029)، " هذه مفاهيمنا " للشيخ صالح آل
الشيخ (122-138)
والله أعلم