الحمد لله.
وفي تحقيق كتاب " المطالب " : الإسناد رجاله ثقات ،
إلا أنه منقطع بين سفيان وطاوس ، فهو ضعيف . انتهى .
وهو مع انقطاع مرسل ، وكلاهما لا تقوم به حجة .
وقد اشتمل الأثر على مسألة اعتقادية غيبية ، وأخرى فقهية عمليَّة ، وكلاهما ليس
لهما في نصوص الوحي الصحيحة ما يؤيدهما ، وقد اجتهد السيوطي رحمه الله فراح يستدل
لتصحيح هذا الأثر وما اشتمل عليه من المسألتين حتى ألَّف فيها مصنَّفاً مستقلاًّ
سمَّاه "طلوع الثريّا بإظهار ما كان خفيّاً " .
قال - رحمه الله - : " ويكون الحديث اشتمل على أمرين :
أحدهما : أصل اعتقادي وهو فتنة الموتى سبعة أيام .
والثاني : حكم شرعي فرعي وهو استحباب التصدق والإطعام عنهم مدة تلك الأيام السبعة
كما استحب سؤال التثبيت بعد الدفن ساعة .
ويكون مجموع الأمرين مرسل الإسناد لإطلاق التابعي له ، وعدم تسميته الصحابي الذي
بلغه ذلك فيكون مقبولاً عند من يقبل المرسل مطلقاً وعند من يقبله بشرط الاعتضاد
لمجيئه عن مجاهد ، وعن عبيد بن عمير " انتهى من " طلوع الثريّا بإظهار ما كان
خفيّاً " ( ص 124 ، 125 ) تحقيق الدكتور جابر زايد السميري .
والذي نقطع به أن الأثر لا يثبت ، ولا يصح القول بما اشتمل عليه من مسائل ، وما جاء
من آثار مرسلة عن مجاهد وعبيد بن عمير لا تصلح لتقوية أثر طاوس ؛ لأن أثر مجاهد لا
أصل له ، وأثر عبيد بن عمير ليس في الإطعام ، وهو وإن كان أصلح إسناداً من أثر طاوس
إلا أنه ليس بمثله تثبت الأمور الغيبية ، وخاصة إن كانت مخالفة للشرع ، كما هو
الحال هنا ، كما سيأتي بيانه .
وهذا بيان بحال الأثرين اللذين ذكرهما السيوطي عن مجاهد وعبيد بن عمير .
1. روى ابن جريج في " مصنفه " – كما في " الحاوي للفتاوي " للسيوطي ( 3 / 266 ) -
عن الحارث بن أبي الحارث عن عبيد بن عمير قال : يُفتن رجلان مؤمن ومنافق ، فأما
المؤمن فيُفتن سبعاً ، وأما المنافق فيفتن أربعين صباحاً .
وقد رواه عبد الرزاق في " مصنفه " ( 3 / 590 ) لكن تصحَّف اسم عبيد بن عمير عنده
إلى " عبد الله بن عمر " ! .
وقد ذكَره على الصواب – إضافة للسيوطي في النقل السابق عنه – كثيرون ، ومنهم ابن
عبد البر المالكي في قوله : " وكان عبيد بن عمير فيما ذكر ابن جريج عن الحارث بن
أبي الحارث عنه يقول : يُفتن رجلان مؤمن ومنافق فأما المؤمن فيفتن سبعاً وأما
المنافق فيفتن أربعين صباحاً " انتهى من " التمهيد لما في الموطأ من المعاني
والأسانيد " ( 22 / 252 ) .
2. وأما ما رويَ عن مجاهد بن جبر فليس فيه تحديد أيام لفتنة القبر للمؤمن ، وليس
فيه إطعام أو صدقة عنه ، ومع ذلك فإنه ليس له إسناد ليُنظر فيه .
قال السيوطي – رحمه الله - : " وذكر ابن رجب في " القبور " عن مجاهد : أن " الأرواح
على القبور سبعة أيام من يوم الدفن لا تفارقه " ، ولم أقف على سنده " انتهى من "
الديباج على مسلم " ( 2 / 490 ) .
وملخص الأمر :
1. لم يصحَّ أثر طاوس في أن المؤمن يُفتن سبعة أيام في قبره بعد دفنه وأنه يُطعم
عنه في تلك الأيام ، فالسند ضعيف منقطع ، والغيب لا يؤخذ إلا من نصوص الشرع ، أو من
موقوفات الصحابة الصحيحة التي يكون لها حكم الرفع ، ثم هو مخالف لما ثبت في النصوص
الصحيحة من كون فتنة المؤمن في قبره مرة واحدة بعد دفنه - ونعني بفتنة القبر سؤال
الملَكين " مُنكر " و " نكير " - .
قال ابن عبد البر – رحمه الله - : " والآثار المرفوعة كلها في هذا المعنى تدل على
أن الفتنة - والله أعلم - مرة واحدة " انتهى من " التمهيد لما في الموطأ من المعاني
والأسانيد " ( 22 / 251 ) .
ثم إن الإطعام عن الميت في سبعة أيام ينبغي أن يكون مشتهراً بين الصحابة الكرام ،
وهذا ما لا يوجد له أثر في تراجمهم وسيرهم ، وإنما المشتهر المعروف صنع الطعام لأهل
الميت لما جاءهم ما يشغلهم عن صنعه ، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم .
2. أثر مجاهد رحمه الله ليس له أصل في الكتب المسندة ، وليس فيه تحديد زمان فتنة
القبر للمؤمنين ، وليس فيه إطعام ولا صدقة للميت .
3. ما جاء عن التابعي الجليل عبيد بن عمير يظهر أنه صحيح الإسناد ، وليس فيه إطعام
عن الميت ، والذي جاء إنما الصدقة عن الميت من كلام ابن جريج رحمه الله تعليقاً على
الأثر حيث قال " وأنا أقول : قد قيل في ذلك ، فما رأينا مثل إنسان أغفل هالكه سبعاً
أن يتصدق عنه " ، وتحديده للزمان فيه نظر لا يَخفى ، والصدقة عن الأموات عامة
العلماء على جوازها .
وفي أثر عبيد بن عمير حصرٌ لفتنة القبر بالمؤمن والمنافق ، وهذا يعني أن الكافر لا
يُفتن في قبره وهو نص رواية عبد الرزاق الصنعاني في " مصنفه " حيث جاء فيها عنه
قوله " إنما يفتتن رجلان مؤمن ومنافق أما المؤمن فيُفتن سبعاً وأما المنافق فيفتن
أربعين صباحاً وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه " ، وقد تبنَّى هذا القول
بعض الأئمة من أشهرهم الحافظ ابن عبد البر رحمه الله حيث قال : " الآثار الثابتة في
هذا الباب إنما تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان في
الدنيا منسوباً إلى أهل القبلة ودين الإسلام ممن حقن دمه بظاهر الشهادة ، وأما
الكافر الجاحد المبطل : فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه ونبيه ، وإنما يسأل عن هذا أهل
الإسلام " انتهى من " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 22 / 252 ) .
وقد ردَّ الأئمة المحققون هذا ، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعليقاً على أثر "
عمير بن عبيد " رحمه الله : " وهذا موقوف ، والأحاديث الناصَّة على أن الكافر يُسأل
مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة فهي أولى بالقبول " انتهى " فتح الباري " ( 3 / 239 )
.
ونقل ابن القيم كلام ابن عبد البر ثم قال : " والقرآن والسنة تدل على خلاف هذا
القول ، وأن السؤال للكافر والمسلم ، قال الله تعالى ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
وَيُضِلُّ الله الظَّالِمينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ ) إبراهيم/ 27 ، وقد ثبت
في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يُسأل ( من ربك وما دينك ومن نبيك) ، وفي
الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن العبد إذا وضع
في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ) وذكر الحديث ، زاد البخارى ( وأما
المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول : لا أدرى كنت أقول ما
يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه
إلا الثقلين ) هكذا في البخارى ( وأما المنافق والكافر ) بالواو ... .
وقول أبى عمر رحمه الله " وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه "
: فيقال له : ليس كذلك ، بل هو من جملة المسئولين وأوْلى بالسؤال مِن غيره ، وقد
أخبر الله في كتابه أنه يَسأل الكافر يوم القيامة قال تعالى ( وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) القصص/ 65 ، وقال تعالى
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
الحِجر/ 92 ، 93 ، وقال تعالى ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف/ 6 ، فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا
يُسألون في قبورهم ، فليس لما ذكره أبو عمر رحمه الله وجه " انتهى من " الروح " ( ص
84 – 86 ) باختصار .
4. الذي صحَّ في السنَّة النبوية وفي آثار الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم إنما
هو صنع الطعام لأهل الميت ؛ اتباعاً لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وليس
يُعرف عنهم إطعام أو صدقة لزمان معيَّن بعد دفن ميتهم ، ولا يُعرف أن أهل الميت
يصنعون طعاماً للناس .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله - : " وأحبُّ لجيران الميت أو ذي قرابته أن يعملوا
لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاماً يشبعهم ؛ فإن ذلك سنَّة وذِكر كريم ، وهو من
فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا ؛ لأنه لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ( اجعلوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم ) – رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه بإسناد حسن - " انتهى من " الأم " ( 1 / 278 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون
الناس إليه : فهذا غير مشروع ، وإنما هو بدعة ، بل قد قال جرير بن عبد الله " كنَّا
نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة " ، وإنما المستحب إذا
مات الميت أن يصنع لأهله طعام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر
بن أبى طالب : ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ؛ فقد أتاهم ما يشغلهم ) " انتهى من "
مجموع الفتاوى " ( 24 / 316 ) .
والله أعلم