الحمد لله.
ثانيًا : اشتراط الشهود
الأربعة في حد الزنا هو تأكيد لمزيد من الاحتياط في صيانة الأعراض ، كي لا يتساهل
الناس في القذف والطعن في الشرف ، ولا تتسارع الألسنة في هتك الأعراض ونشر الفحش
والتشكيك في الأنساب وإلحاق المعرة بالشرفاء .
قال الماوردي رحمه الله في " الحاوي" (13/226 ) :
" الشهادات تتغلظ بتغليظ المشهود فيه ، فلما كان الزنا واللواط من أغلظ الفواحش
المحظورة وآخرها ، كانت الشهادة فيه أغلظ : ليكون أستر للمحارم ، وأنفى للمعرة "
انتهى .
ثالثًا : ليس مطلوبًا من
المسلم أن يتتبع عورات الناس وأن يتجسس على خصوصياتهم حتى يثبت جريمة الزنا ، بل قد
ورد النهي عن التجسس في الكتاب والسنة .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ) الحجرات /12.
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلَا تَجَسَّسُوا
وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا إِخْوَانًا ) .
رواه البخاري ( 4849 ) ومسلم ( 2563) .
ولمزيد من التفصيل يمكنكم مراجعة السؤال رقم (99738)
.
فلا يجوز للحاكم أو غيره أن يتجسس على الناس وأن يتتبع عوراتهم حتى يثبت الجريمة ،
لكن إن رأى منكرًا غيره بغير تنقيب عنه .
قال إمام الحرمين : " ليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور
بالظنون ، بل إن عثَر على منكر غيَّره جهدَه " انتهى من "شرح صحيح مسلم" للنووي ( 2
/ 26) .
رابعًا : رغم أن الأصل في
التجسس المنع والتحريم ، لكن إذا علم المحتسب ، أو غلب على ظنه : أن ثم جريمة يمكن
الحيلولة دون وقوعها ، وإذا تأخر فسوف يفوت استدراكها ، كقتل بريء أو اغتصاب فتاة ،
فمصلحة حفظ نفس من التعرض للقتل ، أو منع وقوع المنكر إذا ظهرت علاماته ، وبدت
بوادره ، مقدمة على مفسدة التجسس على الآخرين .
قال الماوردي : " ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يَظهر من المحرمات ، فإن غلب على الظن
استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت : فذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه
أن رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذا الحال أن
يتجسس ، ويقدم على الكشف والبحث ، حذراً من فوات ما لا يستدرك ، وكذا لو عرف ذلك
غير المحتسب من المتطوعة : جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار .
الضرب الثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز التجسس عليه ، ولا كشف الأستار عنه
، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار : لم يهجم عليها بالدخول
، لأن المنكر ظاهر ، وليس عليه أن يكشف عن الباطن " انتهى من "شرح صحيح مسلم"
للنووي ( 2 / 26) .
خامسًا : إذا رأيت جريمة
الزنا فلست مطالبًا بالاتصال بمن يأتي ليكون شاهدًا عليها ، لكن إن كان الواقع في
هذه الجريمة مستترًا قد غلبته شهوته وترجى توبته ، فالأولى ستره وعدم فضحه إلا
لمصلحة راجحة ، أما إن كان مجاهرًا مجترئًا على الفواحش فالأولى فضحه وتسليمه
للحاكم إن توفر الشهود الأربعة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " ( 12 / 124 - 125 ) عند حديثه عن
قضية الصحابي ماعز الذي أقر على نفسه بالزنى وأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد
عليه :
" ويؤخذ من قضيته : أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر
نفسه ، ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز .
وأن مَن اطلع على ذلك : يستر عليه بما ذكرنا ، ولا يفضحه ، ولا يرفعه إلى الإمام ،
كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة : ( لو سترته بثوبك لكان خيراً لك ) ،
وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه ، فقال : أُحبُّ لمَن أصاب ذنباً فستره الله عليه
أن يستره على نفسه ويتوب ، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر.
وقال ابن العربي : هذا كله في غير المجاهر ، فأما إذا كان متظاهراً بالفاحشة
مجاهراً ، فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره " انتهى .
سادسًا : في أحكام جريمة
الزنا راعت الشريعة الإسلامية حفظ الأعراض والدماء بالتشديد في إثبات الجريمة ، كما
راعت حفظ الدين والأخلاق وحق المجتمع بالتشديد في العقوبة برجم الزاني المحصن ،
وجلد غير المحصن وتغريبه ، مع العلنية في تنفيذ العقوبة لمزيد من الاتعاظ والردع ،
وهذا من محاسن الشريعة وكمالها وتمامها .
ولذلك يصعب أن تثبت جريمة الزنا بشهادة الشهود إلا في حق فاجر مجاهر بالفاحشة مستخف
بالحرمات يمارس الزنا علنًا بحيث يراه أربعة من الرجال رؤية عينية لا ريب فيها ،
وهذا لا يحدث عادة إلا في مجتمعات متهتكة فاسقة يفشو فيها الفجور والرذيلة وتشيع
فيها الفواحش والموبقات بلا إنكار ولا تثريب ، كما قد يحدث في بلاد الكفار ، نسأل
الله السلامة والعافية .
أما في المجتمعات الإسلامية فلا تكاد تثبت جريمة الزنا إلا بالإقرار والاعتراف ؛
لأن طبيعة هذه المجتمعات في العادة لا تفرز هذا النوع من الانحلال والتهتك الذي
يسمح لفاجر بالمجاهرة بجريمة كالزنا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة النبوية " (6/95) :
" والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد ، وما أعرف حدًا أقيم بها ، وإنما تقام
الحدود إما باعتراف وإما بحبل " انتهى .
والله أعلم .