الحمد لله.
وأما ما أشار إليه السائل من خبر عائشة رضي الله عنها فهو ما رواه البخاري (3097) ومسلم (2973) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ " .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" كالت عائشة الطعام ناظرة إلى مقتضى العادة ، غير متلمحة في تلك الحالة منحة
البركة ، فردت إلى مقتضى العادة ، كما ردت زمزم إلى عادة البئار حين جمعت هاجر
ماءها " انتهى من "كشف المشكل" (ص 1210) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" حَدِيث عَائِشَة مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا كَالَتْهُ لِلِاخْتِبَارِ فَلِذَلِكَ
دَخَلَهُ النَّقْص , وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ أَبِي رَافِع لَمَّا قَالَ لَهُ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّالِثَة " نَاوِلْنِي
الذِّرَاعَ , قَالَ وَهَلْ لِلشَّاةِ إِلَّا ذِرَاعَانِ ؟ فَقَالَ : لَوْ لَمْ
تَقُلْ هَذَا لَنَاوَلْتنِي مَا دُمْت أَطْلُبُ مِنْك " فَخَرَجَ مِنْ شُؤْمِ
الْمُعَارَضَةِ اِنْتِزَاعُ الْبَرَكَةِ , وَيَشْهَدُ لِمَا قُلْته حَدِيث : " لَا
تُحْصِي فَيُحْصِي اللَّه عَلَيْك " انتهى .
ويشبهه ما رواه مسلم (2281)
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْتَطْعِمُهُ فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ
مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ
وَلَقَامَ لَكُمْ ) .
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : " سَبَب رَفْع النَّمَاء مِنْ ذَلِكَ عِنْد الْعَصْر
وَالْكَيْل - وَاَللَّه أَعْلَم - الِالْتِفَات بِعَيْنِ الْحِرْص ، مَعَ
مُعَايَنَة إِدْرَار نِعَم اللَّه وَمَوَاهِب كَرَامَاته وَكَثْرَة بَرَكَاته ,
وَالْغَفْلَة عَنْ الشُّكْر عَلَيْهَا وَالثِّقَة بِاَلَّذِي وَهَبَهَا وَالْمَيْل
إِلَى الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة عِنْد مُشَاهَدَة خَرْق الْعَادَة . وَيُسْتَفَاد
مِنْهُ أَنَّ مَنْ رُزِقَ شَيْئًا أَوْ أُكْرِم بِكَرَامَةٍ أَوْ لُطِفَ بِهِ فِي
أَمْر مَا فَالْمُتَعَيِّن عَلَيْهِ مُوَالَاة الشُّكْر وَرُؤْيَة الْمِنَّة
لِلَّهِ تَعَالَى , وَلَا يُحْدِث فِي تِلْكَ الْحَالَة تَغْيِيرًا وَاَللَّه
أَعْلَم " انتهى من "فتح الباري" (11/281) .
والحاصل :
أن حديث عائشة هو من باب الكرامة ، بإنزال بركة زائدة عما اعتاده الناس في مثل هذا
الطعام ، فلما حصل الكيل ، أو النظر إلى ما يعتاده الناس ، جرى الأمر على تلك
العادة ، بسبب التفات القلب عن مقتضى البركة ، ومقام الكرامة .
وهذا أمر ينبغي أن يلاحظ فيما ذكرناه أولا من التدبير المشروع ، أن يكون التدبير والاقتصاد ، نوعا من الأخذ بأسباب المعيشة اللائقة بها ، من غير زيادة تنطع في ذلك الباب ، أو تعلق زائد للقلب بالأسباب ، بل يجعل مدار الأمر على فضل الله وبركته التي قد تخالف حسابه ، وتعلق قلبه إنما هو بربه وتدبيره لعبده ، وأن تكون ثقته بما عند الله ، فوق ثقته بما في يده ، مع ملاحظة ما قررناه أولا من مشروعية الأخذ بالأسباب ، على ما أمر به الشرع ، ومن جملتها التدبير والاقتصاد في المعيشة ، كل بحسبه .
وينظر جواب السؤال : (151362) .
والله تعالى أعلم .