الحمد لله.
ثانيا :
ليُعلم أن هذه اللفظة لا يراد بها الفداء على الحقيقة ، بل هي للتعبير عن حب وبرّ
وعظيم منزلة لهذا المفدَّى عند المفْدي ، ومما يدل على ذلك استعمال النبي صلى الله
عليه وسلم لها لبعض أصحابه ومعلوم أن أبواه لم يكونا أحياء وقتها ! فَعَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنِّي
سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ ( يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي )
رواه البخاري ( 3519 ) ومسلم ( 2412 ) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ يَأْتِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي
بِخَبَرِهِمْ ) فَانْطَلَقْتُ فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ فَقَالَ ( فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ) رواه
البخاري ( 3515 ) ومسلم ( 2416 ) .
ولا يحق للزوجة أن تغضب من
هذا ، بل إن عليها أن تفرح وتعين زوجها على أنواع البر لأمه ، فمَن لا خير فيه لأمه
لا خير فيه لزوجه ، وإذا كانت هذه التفدية على باب المجاز ، والتوسع في العبارة على
ما جاءت به العرب ، فليس في ذلك شيء يستوجب غضبا ، ولا اعتذارا ، بل لا يستوجب
الوقوف عنده أصلا ؛ خاصة أيضا وأن الزوج كان مجرد ناقل لمقطع يستحسنه .
ثم إننا لا نرى مانعا من أن تخاطب امرأتك بمثل هذه العبارة ، فتقول : وأنتِ أيضا "
فداكِ أبي وأمي ونفسي ومالي " ؛ فإن الزوجة يليق بها ذلك أيضاً ؛ لما أمر الشارع
بالإحسان إليها ، ولما تبذله لزوجها وأولادها ، وقد سبق معرفة أن الكلام لا يراد به
حقيقته .
قال النووي – رحمه الله – في شرح حديث علي بن أبي طالب السابق - : " فيه : جواز
التفدية بالأبوين ، وبه قال جماهير العلماء ، وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري
رضي الله عنهما ، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه .
والصحيح : الجواز مطلقاً ؛ لأنه ليس فيه حقيقةً فداء وإنما هو كلام وإلطاف وإعلام
بمحبته له ومنزلته ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقاً " انتهى من " شرح
مسلم " ( 15 / 184 ) .
ولتعلم الزوجة أن هذه العبارة إذا كانت على وجه الإكرام والإلطاف في القول ، فإن
أولى الناس بذلك ، وأحقهم به : هي الأم ، ولا علاقة للزوجة ومنزلتها بذلك أصلا .
وإذا قدر أن أحدا يطلقها ، ويريد بها حقيقتها ، فالأم ـ أيضا ـ هي التي يليق بها
ذلك ؛ فإن رضاها مقدم على رضا الزوجة والولد ، وراحتها مقدمة على راحة الزوجة
والولد ، وطاعتها مقدمة على طاعة الزوجة والولد ، وبرها مقدم على بر الزوجة والولد
؛ فأي خطأ في ذلك ؟ وأي إساءة في مثل هذا الكلام ؟!
ثالثاً:
أما ما تهدد به عند غضبها من خلع الخمار ، فهو أمر عظيم جلل ، وإننا لنرجو أن يكون
كلاماً لا يوافق الباطن ، أو أنها ظنت أنها تغاضبك بمثل هذا ، أو نحو ذلك مما يكون
بين الأزواج .
غير أننا ننبه الزوجة إلى أن هذا شيء جلل ، وأن عليها أن تتقي الله من تهديدها هذا
؛ فإن لبس الخمار ليس طاعة لك وحدك ، بل هو طاعة لله من قبل والذي قال : ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا
يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/ 59 .
هل يليق بمسلم أن يهدد بأن يعصي الله ، ويغضبه ، لأجل أنه غضب من أحد من البشر ؛ أو
يوطن نفسه على ذلك ؟ فلتحذر الزوجة من كلمة قد توبق دنياها وأخراها ، فتكون سبباً
للهوي في النار ، ولتعلم أن أكثر ما يُدخل الناس في جهنم إنما هو حصائد ألسنتهم ،
وليكن لك أنت موقف حازم جاد من تعليمها ذلك ، وتأديبها عليه .
رابعاً:
أما بخصوص النفقة على الزوجة والأم : فإن الإحسان إلى الأم واجب محتَّم ، وعند
القدرة على النفقة فيبدأ بالزوجة ثم بأمه ، وأما إذا لم يستطع إلا أن ينفق على واحد
فتقدَّم الزوجة ويكون معسراً في حق أمه فحاله كحال أي ابن فقير ليس لأمه معيل إلا
هو وهو غير قادر على النفقة عليها فيسقط الواجب للإعسار وينتقل لغيره من أخ له أو
لها حتى ينتقل إلى بيت مال المسلمين ، والفرق بين الزوجة والأم في هذه الحال واضح
فالزوجة محبوسة لزوجها ومع قدرته فلا تجب نفقتها إلا عليه ، وأما الأم فقد يكون لها
أبناء وبنات وإخوة وأخوات وأب وأم ، فيلاحظ تعدد المنفقين ، ولا تجب نفقتها على
أحدهم باعتباره ابناً أو أخاً بل تسقط النفقة على المعسر دون الموسر منهم ، وأما في
حال الزوجة فتجب نفقتها على زوجها بعينه موسراً كان أو معسراً ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( إذَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدَكُمْ خَيْرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ
وَأَهْلِ بَيْتِهِ ) رواه مسلم ( 1822 ) ، وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم - (
1036 ) - ( ابْدَأْ بِمَنْ تَعُول ) .
قال ابن قدامة في " المغني " ( 2 / 695 ) : " لأن نفقتها – أي : الزوجة - آكد ؛ فان
نفقتها تجب على سبيل المعاوضة مع اليسار والإعسار ، ونفقة الأقارب صلة تجب مع
اليسار دون الإعسار " انتهى .
قال النووي – رحمه الله - : " يلزمه نفقة الوالد وإن علا ، والولد وإن سفل ، وإن
اختلف دِينُهما ، بشرط يسار المنفِق بفاضل عن قوته وقوت عياله في يومه " .
انتهى من " منهاج الطالبين " ( ص 120 ) .
وقال الخطيب الشربيني – رحمه الله – شارحاً كلام النووي - : " سواء أفضَل ذلك بكسب
أم بغيره ، فإن لم يفضل شيء : فلا شيء عليه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ابْدَأ
بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فِإنْ فَضَلَ شَيءٌ فَلأهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ
عَنْ أَهْلِكَ فَلذِي قَرَابَتِكَ ) رواه مسلم " .
انتهى من " مغني المحتاج " ( 3 / 447 ) .
وقد سبق ذِكر المسألة في جواب السؤال رقم (
129344 ) .
والله أعلم