الحمد لله.
وكلا الحكمين ناسخ لحكم سابق للزناة – محصنين وغير محصنين – وهذا الحكم هو الحبس في البيوت ، فنسخ حكم حبس الزاني غير المحصن بآية النور بالجلد ، ونسخ حكم الزاني المحصن بالآية التي جاءت في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد جاء في السنَّة النبوية ما يؤكد هذين الحكمين والتفريق بين الزاني المحصن وغير المحصن ، فقد جاءت الإشارة إليه في آية قرآنية أنه يحبس في البيت حتى يجعل الله له سبيلاً ، قال تعالى : ( وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) النساء/ 15 ، وقد جاء هذا السبيل مبيَّناً في حديث صحيح وهو الرجم بالحجارة للمحصن – وأكدته الآية القرآنية في كلام عمر - والجلد مائة لغير المحصن – وأكدته آية النور - ، فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ) رواه مسلم ( 1690 ) .
وعليه : فإما أن تُجعل آية
النور خاصة في الزاني غير المحصن ، أو يقال إنها عامة لكنها منسوخة في حق المحصن
وحده ، إما بالحديث الصحيح في النص على رجم الزاني المحصن ، أو بالآية التي ذكر عمر
بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة نزولها وتلاوتها وعملهم بها .
قال ابن قدامة – رحمه الله - : " وقولهم إن هذا نسخ ليس بصحيح ، وإنما هو تخصيص ،
ثم لو كان نسخاً لكان نسخاً بالآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه " انتهى من "
المغني " ( 10 / 117 ) .
رابعاً:
وأما قول الصحابي عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه لما سئل " هَلْ رَجَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ " فقَالَ : نَعَمْ ، ثم سئل : "
بَعْدَ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ أَمْ قَبْلَهَا ؟ " قَالَ : لَا أَدْرِي ":
فليس فيه حجة لمن قال إن الرجم لم يقع بعد آية النور ، وإنها نص في عموم الزناة !
لأن الصحابي الجليل ابن أبي أوفى قال إنه لا يدري ، وهو لم ينف ولم يثبت شيئاً ،
وقد ثبت أن الرجم وقع بعد نزول سورة النور ؛ فآية النور نزلت بعد حادثة الإفك ،
وأبو هريرة رضي الله عنه كان أسلم بعدها ، وقد حضر إقامة حدِّ الرجم على زانٍ محصن
، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ
عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَبِكَ جُنُونٌ
؟ ) قَالَ : لَا قَالَ : ( فَهَلْ أَحْصَنْتَ ) قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ ) .
رواه البخاري ( 6430 ) ومسلم ( 1691 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور ؛ لأن نزولها كان في قصة الإفك ، واختُلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست ، والرجم كان بعد ذلك ، فقد حضره أبو هريرة ، وإنما أسلم سنة سبع ، وابن عباس إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع " انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 120 ) .
وقال – رحمه الله - : " قوله
" لا أدري " فيه : أن الصحابي الجليل قد تخفى عليه بعض الأمور الواضحة ، وأن الجواب
من الفاضل بـ " لا أدري " لا عيب عليه فيه ، بل يدل على تحريه وتثبته فيمدح به "
انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 167 ) .
خامساً:
قول عمر رضي الله عنه في الآية التي نزلت في الرجم ليس له تعلق بمسألة " حجية قول
الصحابي " ؛ لأن المنقول عن عمر رضي الله عنه ليس رأياً له في مسألة ، بل هو رواية
لنص من نصوص الوحي ، وكان ذلك بمشهد من جمعٍ من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا فرق في
هذا بين ما نقله هنا وما نقله – مثلاً – من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (
إِنَّمَا الأَعْمال بِالنِّيَّات ) – متفق عليه - .
وانظر جواب السؤال رقم (
111382 ) .
وانظر جواب السؤال رقم (
110237 ) ففيه
بيان الحكَم من نسخ التلاوة مع بقاء الحكم .
سادساً:
وأما قول عائشة رضي الله عنها في مسألة " رضاع الكبير " فله اتجاهان :
الأول : ما نقلتْه – رضي الله عنها – في حديثها عن رضاع سالم مولى أبي حذيفة من
زوجته سهلة ، وقد كان ابناً لهما قبل تشريع تحريم التبني ، وهذا النقل منها – رضي
الله عنها – هو نقل لوحي وتشريع وليس له تعلق بمسألة " حجية قول الصحابي " وهو كما
ذكرناه آنفاً في كلامنا عن عمر رضي الله عنه في المسألة السابقة .
الثاني : ما اجتهدت فيه – رضي الله عنها – من جعل الحكم عامّاً في كل كبير فوق
السنتين ، حينما تحتاج أسرة لإدخاله في بيتها من غير وقوع في حرج النظر والخلوة ،
وهذا اجتهاد محض منها رضي الله عنها ، خالفها فيه سائر أمهات المؤمنين رضي الله
عنهن ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ : " وَاللَّهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً
أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً
فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَائِينَا "
رواه مسلم ( 1454 ) .
وقد خالفها فيه – أيضاً - جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء .
وانظر الأدلة وأقوال العلماء في جوابي السؤالين (
85115 ) و (
175072 ) .
والله أعلم