الحمد لله.
أولا :
كثير من الناس يتكلف البحث عن الفضل الخاص وينسى الفضل العام الذي أكرم الله به
جميع المؤمنين ، فقد وعد الله عز وجل جميع المسلمين بالأجر العظيم إن صبروا على
الضراء ، ورضوا بما أصابهم من صروف الدنيا ونوائبها ، فقال سبحانه : ( إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
كَبِيرٌ ) هود/11، وقال عز وجل : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا
عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا
زَمْهَرِيرًا ) الإنسان/9-13.
فمن غير الحكمة أن نضيع هذه الأجور العامة العظيمة ، بحثا عن أجر خاص ورد في حديث
معين ، قد لا يكون ثابتا ، وإن ثبت فقد يكون خاصا بالأرملة ولا تقاس عليه المطلقة .
ولهذا فوصيتنا لك أن تحتسبي أمرك عند الله ، وتشتغلي بتربية أبنائك وتنشئتهم النشأة
الحسنة ، ولك من الله سبحانه على كل ساعة تقضينها في سبيل ذلك الثواب الجزيل ،
زيادة على ما سبق لك من الصبر وتحمل البلاء الذي ابتلي به زوجك السابق .
ثانيا :
أما الأحاديث الواردة في فضل الأرملة التي تعزف عن الزواج للتفرغ لأيتامها فهي
ضعيفة ولا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن نرجو لمن قعدت على أبنائها
تنبتهم النبات الحسن أن ينالها الثواب الوارد إن كان صحيحا في نفس الأمر .
الحديث الأول :
عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -
وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى - امْرَأَةٌ ذَاتُ
مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ، حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى أَيْتَامِهَا
حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا ) .
سفعاء الخدين : هي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الإيمة وترك الزينة
.
رواه البخاري في " الأدب المفرد " (رقم/141) وأحمد في " المسند " (39/432)، وأبو
داود في " السنن " (5149)، وابن أبي الدنيا في " النفقة على العيال " (1/232)،
والطبراني في " المعجم الكبير " (18/56) من طرق عن النهاس بن قهم ، قال حدثني شداد
أبو عمار ، عن عوف بن مالك به .
قلنا : وهذا إسناد ضعيف بسبب النهاس بن قَهم ، فقد كان يحيى القطان يضعف حديثه ،
وقال ابن معين : ليس هو بشيء ، وكذا قال أبو حاتم ، وضعفه أبو داود والنسائي ، وقال
ابن عدي : وأحاديثه مما ينفرد به عن الثقات لا يتابع عليه ، وقال ابن حبان : كان
يروي المناكير عن المشاهير ، ويخالف الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به ، وقال الدارقطني
: مضطرب الحديث . انظر ترجمته في " تهذيب التهذيب " (10/426) .
وفيه علة أخرى أيضا هي الانقطاع بين شداد أبي عمار وعوف بن مالك ، فقد قال صالح
جزرة إنه لم يسمع منه . انظر : " تهذيب التهذيب " (4/317) .
لذلك ضعف هذا الحديث الشيخ الألباني رحمه الله في " ضعيف أبي داود " ، وفي "
السلسلة الضعيفة " (رقم/1122) وغيرها .
الحديث الثاني :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أنا أول من يفتح باب الجنة ، إلا أني أرى امرأة تبادرني ، فأقول لها : ما لك ومن
أنت ؟!
فتقول : أنا امرأة قعدت على أيتام لي ) .
رواه أبو يعلى في " المسند " (12/7)، والخطيب البغدادي في " المتفق والمفترق "
(2/1091)، والديلمي في " الفردوس " (1/34) من طريق عبد السلام بن عجلان الهجيمي ،
حدثنا أبو عثمان النهدي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
وهذا إسناد ضعيف أيضا بسبب
عبد السلام بن عجلان ، فقد قال فيه أبو حاتم : " شيخ بصري يكتب حديثه " انتهى من "
الجرح والتعديل " (6/46)، وقال ابن حبان : " يخطئ ويخالف " انتهى من " الثقات "
(7/127) .
فمثله ، ما دام لم يوثق ، لا يقبل تفرده بحديث ؛ بل نص النقاد على أنه يخطئ ويخالف
، لذلك ضعفه البوصيري في " إتحاف الخيرة " (5/488)، والألباني في " ضعيف الترغيب
والترهيب " (2/81) وفي " السلسلة الضعيفة " (5374) .
ورواه الخرائطي في " مكارم الأخلاق " (ص/212) قال : حدثنا نصر بن داود الخلنجي،
حدثنا سهل بن بكار ، حدثنا عبد السلام أبو الخليل ، عن أبي يزيد المدني ، عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ آدَمَيٍّ الْجَنَّةَ يَدْخُلُهَا قَبْلِي ، غَيْرَ أَنِّي أَنْظُرُ
عَنْ يَمِينِي ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ،
فَأَقُولُ : مَا لِهَذِهِ تُبَادِرُنِي ؟ فَيُقَالُ لِي : يَا مُحَمَّدُ ، هَذِهِ
امْرَأَةٌ كَانَتْ حَسْنَاءَ جَمْلَاءَ ، وَكَانَ عَلَيْهَا يَتَامَى لَهَا ،
فَصَبَرْتَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى بَلَغَ أَمَرُهُنَّ الَّذِي بَلَغَ ؛ فَشَكَرَ
اللَّهُ لَهَا ذَاكَ ) .
وقد قال الشيخ الألباني رحمه الله عن إسناد الخرائطي هذا إنه إسناد أبي يعلى نفسه ،
وأن الخطأ وقع من عبد السلام فقال : " عن أبي يزيد المدني " بدلا من " أبي عثمان
النهدي "، فقال : " لعله من سوء حفظ عبد السلام نفسه " انتهى من " السلسلة الضعيفة
" (11/625).
وقال الحافظ العراقي عن رواية الخرائطي هذه :
" سنده ضعيف " انتهى بتصرف من " تخريج الإحياء " (1/500) .
الحديث الثالث :
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ثلاثة في ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله : واصل الرحم ، يزيد الله في
رزقه ويمد في أجله ، وامرأة مات زوجها وترك عليها أيتاما صغارا ، فقالت : لا أتزوج
، أقيم على أيتامي حتى يموتوا أو يغنيهم الله ، وعبد صنع طعاما فأضاف ضيفه وأحسن
نفقته ، فدعا عليه اليتيم والمسكين ، فأطعمهم لوجه الله تعالى ) .
رواه الديلمي في " الفردوس " (2/99) ، وعزاه في " الجامع الصغير " لأبي الشيخ في "
الثواب "، والأصبهاني في " الترغيب "، ولم نقف على إسناده فيهما .
ولكن قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" ضعيف جدا " انتهى من " ضعيف الجامع " (رقم/2580)، وكذا في " السلسلة الضعيفة "
(رقم/3437) بسبب يزيد الرقاشي .
والحاصل : أن الحديث ضعيف لا
يصح ، لكن ضعفه يسير، ليس بالشديد ولا بالمنكر ، بل إن بعض المحدثين حسن إسناده ،
كما فعل المنذري في " الترغيب والترهيب " (3/236).
ومعنى ذلك أنه لا حرج على الأرملة التي قعدت على أيتامها أن تحتسب هذا الأجر الوارد
في الحديث ، لعل الله عز وجل يكتبه لها ، ولكن من غير اعتقاد نسبة الحديث إلى النبي
صلى الله عليه وسلم .
أما المطلَّقة فلم يرد فيها هذا الفضل ، فالأولى السكوت عن ذلك ، واحتساب أجر الصبر
الذي وعد الله به جميع الصابرين ، وأجر تربية الأبناء الذي يكتبه الله عز وجل
للمربين الصالحين .
والله أعلم .